ثمة جوانب في النضال الفلسطيني عبر التاريخ، لم تُسلّط عليها الأضواء بعد. لعل من ابرزها نضال الكنيسة الأرثوذكسية، والبطاركة العرب، لاعطاء هذه الكنيسة طابعها العربي المميز.

والأرثوذكس تعود أصولهم الى الغساسنة في بلاد الشام. وهم ملوك العرب، وهم أولئك الذين نصروا اخوانهم العرب المسلمين على الرومان.

وفي البحث التالي، أضواء على نضال هذه الطائفة العربية العريقة في مواجهة الصهيونية في فلسطين.

فالطائفة الأرثوذكسية هي أقدم الطوائف المسيحية في فلسطين، وتعود في أصولها الى القبائل العربية من الغساسنة والتغالبة.

وحتى القرن الخامس الميلادي، لم يكن في العالم سوى كنيسة مسيحية واحدة هي الأرثوذكسية. ورغم أن الانقسام في الامبراطورية الرومانية بين روما والقسطنينية قد حصل عام 395م، الا أن انقسام الكنيسة تأخر عدة قرون ولم تظهر الكنيسة الكاثوليكية الا عام 1054.

ويرى بعض المؤرخين ان تبني الديانة المسيحية من جانب الامبراطورية الرومانية كان وبالا عليها. اذ ما لبثت هذه ان انقسمت عام 395 بعد وفاة الامبراطور ثيودوسيوس نتيجة صراع ابنيه على السلطة فاتخذ أحدهما القسطنطينية مقرا له وأعلن نفسه خليفة لوالده، بينما فعل الآخر الشيء ذاته في روما، فانقسمت الامبراطورية الى قسمين: شرقي أطلق عليه اسم الدولة البيزنطية وأصبح أباطرتها من اليونانيين وهي التي أطلق العرب على التابعين لها اسم الروم، وغربي ظل محتفظا باسم الامبراطورية الرومانية وظلت اللاتينية لغته الرسمية.

 

عروبة المسيحيين

كان الاضطهاد الذي لحق بالمسيحيين في الشرق على يد البيزنطيين وعلى مدار ثلاثة قرون متتالية قبل الاسلام، السبب وراء انضمام المسيحيين العرب بأجمعهم الى صفوف الجيوش العربية أيام الفتوحات الاسلامية. فعندما وصل الفتح الاسلامي الى فلسطين وجنوب سورية، حيث منازل الغساسنة، سأل الرومان الغساسنة المسيحيين، أتقاتلون مع أبناء دينكم، أم مع أبناء عمّكم؟ فقالوا: "بل نقاتل مع أبناء عمومتنا."

ويقال ان الروم ربطوا بعض الغساسنة بالجنازير، ووضعوهم دريئة امام جيشهم، أي دروعاً بشرية أمام فرسانهم. وحين وصل الجيش العربي الى مقدمة جيش الرومان، اندفعوا الى المقيّدين وقطعوا سلاسلهم، والتفت هؤلاء الى الرومان يقاتلونهم مع أبناء عمومتهم، وقد سميت تلك المعركة "بذات السلاسل".

وحين استقر الامر للمسلمين، خيّرهم عمر بن الخطاب بين دخول الاسلام او البقاء على دينهم، ففضلوا البقاء على دينهم، وكان لابد من فرض الجزية عليهم في مثل هذه الحال حسب شرعة الأسلام. لكنهم رفضوا دفع الجزية لأنها تمسّ إباءهم العربي، فما كان من عمر الا أن سمّاها زكاة مضاعفة، فقبلوا بدفعها.

وقد طلب البطريرك صفرونيوس ممثل المسيحية في فلسطين من الخليفة عمر بن الخطاب أن يستمر منع اليهود من سكنى القدس. فكان لهم ذلك.

وحتى هذه الأيام لا يزال اهل حوران وبعض نواحي وسط سورية حول حمص وتحديدا قرى "زيدن وفيروزة" يفخرون بأصولهم العربية ويفاخرون بأنهم الغساسنة الذين نصروا العرب المسلمين في حربهم على الروم، ولا تزال الغالبية الغالبة منهم على المسيحية والروم الارثوذكس تحديدا...

ويرى المؤرخون لتاريخ المسيحية، ان معركة اليرموك الفاصلة بين العرب والروم لم تكن لتنتهي بانتصار العرب الحاسم لولا انضمام قرابة 12 ألف عربي مسيحي من فلسطين وبلاد الشام الى جانب خالد بن الوليد ولاحقا "ابو عبيدة الجراح".

استقرت اللغة العربية في الكنيسة الارثوذكسية بعد الفتح العربي، وكان بطاركة القدس وأساقفة سائر الابرشيات في فلسطين من السوريين والفلسطينيين، وكانوا يتقنون اللغتين اليونانية والعربية.

في العصرين الأموي والعباسي ظل مصير الكنيسة متقلبا ومرتبطا بعلاقات الخلافة بالامبراطورية الرومانية. فمنذ القرن الأول للميلاد وحتى الظهور العثماني عام 1516 بقيت رئاسة الطائفة، وطنية عربية. وفي هذه الفترة وفد الى البلاد رهبان يونانيون استطاعوا بمساعدة السلطات العثمانية ان يوصلوا احدهم الى منصب البطريرك، فعمل هذا على صبغ البطريركية بالصبغة اليونانية، وتم ابعاد الأرثوذكس الفلسطينيين عن كل المناصب الكنسّية العليا، وهيمن اليونانيون على كل موارد الاوقاف الخاصة بالكنيسة، وحرمت اكثرية الطائفة العربية من حقوقها.

 

العهد الصليبي

في العهد الصليبي، أقام الصليبيون على الكرسي البطريركي في القدس بطاركة من الفرنجة، متحدين مع كنيسة روما، فحلّت اللغة اللاتينية محل اللغة اليونانية، واصبح رعايا الكنيسة الارثوذكسية من عرب ويونانيين خاضعين لادارة بطاركة القدس اللاتين. بعد انقضاء العهد الصليبي، وتحرير القدس على يد صلاح الدين الايوبي عام 1187 ومكافأة على وقوف المسيحيين العرب الى جانبه سمح للبطريرك العربي الارثوذكسي بالعودة الى مقره في المدينة.

ولما شعر صلاح الدين بدنو أجله عام1193 أمر بتوزيع الصدقات بعد وفاته على المسلمين والمسيحيين على حد سواء.

ويقول المؤرخ قسطنسيوس الاول بطريرك القسطنطينية في ذلك:" بعد بطاركة اللاتين كان جميع بطاركة القدس عربا، وكانوا ينتخبون من بين اساقفة البطريركية وكلهم من العرب، ومن الاكليروس الوطني".

وقال دوستاس بطريرك القدس (1669-1707) " منذ كانت السلطة في ايدي سلاطين مصر، لم يكن بطاركة القدس يونانيين، بل كانوا عربا".

أما اخر البطاركة العرب في القدس فقد كان البطريرك عطالله او دوروتاوس الثاني (1505-1534). وقد أصدر السلطان العثماني سليم الاول فرمانا، يقضي بحرية العبادة للمسيحيين، ويمنحهم السلطة الكاملة على الاماكن المقدسة.

كان اول بطريرك يوناني في كنيسة القدس، البطريرك جرمانوس(1534-1579) وقد عينه الباب العالي، حيث اصبح تعيين البطاركة في القدس منوطا بسلاطين القسطنطينية.

عمل البطريرك جرمانوس، على تقوية جمعية "أخوية القبر المقدس" للمحافظة على المصالح اليونانية في بطريركية القدس، ولا سيما في الاماكن المقدسة، منتهجا سياسة، قصد بها اقصاء العناصر العربية عن ادارة البطريركية، وعن المناصب الكنسية العليا.

ازاء هذا الجور، بدأت العناصر العربية الارثوذكسية نضالها لاسترداد حقوقها المغتصبة...فكانت اول انتفاضة لأرثوذكس العرب عام 1860، الا ان هذا التمرد قد باء بالفشل، بسبب مساندة السلطة العثمانية لليونانيين، الذين اعتمدوا على تأييد الباب العالي، والذي أقر عام 1875 اول نظام كنسي لكنيسة القدس، وهو اول نظام يصدر عن سلطة مدنية غير دينية، وقد حدد هذا النظام، مهام المجمع المقدس او السينودس، وكيفية إنتخاب البطريرك. ولم يراع في هذا النظام حقوق العرب.

وبعد فشل هذا التمرد، تم ابعاد عدد من رجال الدين، بينهم سابا الخوري، وحنا زخريا، وموسى الصوابيني عن البلاد. ومع استمرار نضال الطائفة اضطر البطريرك دميالس الى الاقرار ببعض المطالب العربية، مقدما بعض التنازلات، وكون لجنة مختلطة من اليونانيين والعرب للاشراف على قسم من شؤون الكنيسة، ولكن هذه التنازلات لم تكن كافية.

اما( التمرد الثاني) الانتفاضة الثانية فكانت عام 1908، اذ قام المتظاهرون الارثوذكس العرب باحتلال دار البطريركية في القدس، والكنائس والاديرة، وفرضوا الصلاة باللغة العربية، فما كان من السلطة الا ان دفعت بجنودها الى الشوارع، محاولة اخراجهم بالقوة من اماكن عبادتهم، فهب المسلمون العرب لتأييدهم، وقاموا بتظاهرة، وعلى رأسها الشيخ موسى كاظم الحسيني، فأجبروا السلطة على ارسال وفد رسمي للتحقيق، تم على أثره ارسال وفد عربي الى الآستانه، لكنه لم ينجح في تحقيق مطالبهم او الاقرار بحقوقهم.

 

العهد البريطاني

مع حلول الانتداب البريطاني، ورغم استمرار نضال الطائفة، لم ينل الارثوذكس مطالبهم، رغم تقرير السير "انطوان برترام" الذي تضمن الاعتراف بتلك الحقوق، وفشلوا في انتخاب بطريرك عربي، لكنهم نجحوا في تحويل قضيتهم الى جزء من القضية العربي الوطنية.

وقد اقر المؤتمر الوطني السادس" ان القضية الارثوذكسية جزء لا يتجزأ من القضية الوطنية العامة" ففي الاسبوع الاول من حزيران- الصيف 1918 أعلن عن تشكيل عدة جمعيات في يافا منها "الشبيبة اليافاوية" و"جمعية التعاون المسيحي" اتبع في شباط 1919 بأول منظمة كشفية واول ناد نسائي عربي. كما تم تشكيل جمعية مسيحية-اسلامية ذات برنامج يهدف الى مقاومة السيطرة اليهودية، والى مكافحة النفوذ اليهودي والحيلولة، وبجميع الوسائل الممكنة "دون شراء اليهود للأرض".

وقد كشف وايزمان النقاب في "ملحق بمذكرة تتعلق بالقضية العربية مؤرخ في الثامن من كانون الثاني1919،" عن ان المعتدلين والمتقدمين في السن من مسلمين ومسيحيين، ممن ينتمون الى الأسر الغنية، ذات النفوذ في فلسطين، ولا سيما في القدس، قد نظموا صفوفهم داخل ما سموه الجمعية الاسلامية- المسيحية ودعت هذه الجمعية الى ضرورة ارسال وفود الى اوروبا تطالب بأن تكون فلسطين للفلسطينيين."

وفي 20-8-1936، صدر بيان عن زعماء المسيحيين في فلسطين، وفيه ناشدوا العالم المسيحي، انقاذ الأماكن المقدسة من الخطر الصهيوني، ولفتوا انظار العالم المسيحي الى ما تجره السياسة البريطانية من ويلات.

أما في العام 1924 فقد بدىء بتأسيس النوادي الأرثوذكسية لرفع شأن الطائفة، والعمل على نيل حقوقها بانتخاب بطريرك عربي، فكات أول ناد تأسس هو النادي الارثوذكسي في القدس، وكان رئيسه الدكتور فوفي فريج، كما كان النادي الأرثوذكسي في يافا من أنشط النوادي، في ذلك الحين.

وفي عكا تأسس النادي الأرثوذكسي عام 1929، وكان المؤسسون له السادة: نقولا زيادة، منسى صيقلي، جبرائيل خوري،ناصر عيسى الرامي، يوسف خليل، وتوما خمار، وقد توالى على رئاسة النادي كل من جبرائيل خوري، والياس خمار، وميشيل خوري، وكان آخرهم الياس طوبي، وهذه بعض أسماء بعض كشافة النادي الأرثوذكسي:

أسعد يوسف نصر: رئيس مجلس ادارة شركة طيران الشرق الأوسط سابقا.

سليم حبيب حوا: مدير عام شركة ابيلا السعودية سابقا

حنا عبدالله حوا: كابتين طيار وهو أول طيار لبناني يقود طائرة جمبو في طيران الشرق الأوسط

عزيز دوماني

كنائب مدير تشارترز بنك

كلوفيس عيد: مدير سابق بنك "مبكو" الحمراء.

ومع اشتداد حركة مقاومة بيع الأراضي لليهود، اتخذت هذه الحركة صبغة دينية. اذ عقد في القدس وبتاريخ 7-8-1934 مؤتمرلرجال الدي المسلمين، حرم فيه بيع الأراضي لليهود، وكفّر كل عربي يبيع أرضا او يتوسط لبيع أرض لليهود.

وقد وقفت الطائفة الأرثوذكسية، والتي تشكل الغالبية من المسيحيين الموقف ذاته، وشاركت في حركة مقاومة بيع الاراضي، فتم عقد مؤتمر عام، وقد تشكلت اللجنة التحضيرية للمؤتمر برئاسة الخوري يعقوب حنا ( من الرامة- قضاء عكا) فدعت الى عقد المؤتمر في القدس في 29-8-1934، وقد حضر المؤتمر ثلاثة وسبعون كاهنا ارثوذكسيا عربيا من مدن وقرى فلسطين، وانتخب الخوري يعقوب حنا، رئيسا للمؤتمر، والخوري نقولا شحاده الخوري( من القدس) أمينا عاما له.

أعلن المؤتمر تمسكه بالميثاق الوطني الفلسطيني(1922) وبمطالب البلاد وحقوقها، وطالب الفلسطينيين بعدم الرضوخ لكل الاغراءات والضغوطات لبيع الاراضي. كما اعتبر هذه المقاومة فرضا دينيا على كل عربي، وأقر ايضا ان ايّ "مسيحي يبيع ارضا او يتوسط لبيعها للصهيونيين، هو خائن لدينه ووطنه، لا يصلّى عليه ولا يدفن في مقابر المسيحيين".

 

واليوم تشهد الساحة الفلسطينية،استمرارا لهذا الصراع المزدوج ضد الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، والاغتصاب اليوناني لحقوق الطائفة العربية، ومن ثم التفريط بأملاك الوقف الارثوذكسي من خلال بيعها او تأجيرها لليهود لمدة طويلة.

فمنذ نكبة فلسطين عام 1948، والتي جاءت لمصلحة رجال الدين اليونانيين المسيطرين على الكرسي البطريركي القدسي، شكل تشتت الشعب الفلسطيني، في المنافي ضربة قوية لنضال الطائفة العربية، ضد الهيمنة اليونانية.

كما شكل العداء للشعب الفلسطيني بكافة فئاته، قاسما مشتركا بين الصهيونية والاكليروس اليوناني، اذ ربطت بين البطريرك ورجال الكيان المغتصب، علاقات تعاون وطيدة...فعمد البطاركة الى طمس هوية الكنيسة العربية، وازالة كل الأثار العربية بحجة تزيينها. وهذا ما يتناسب مع التوجه الصهيوني لطمس التاريخ العربي للمنطقة، ونفي الحقوق التاريخية والقومية للأمة، تثبيتا لادعاء توراتهم بأنها الارض الموعودة.

كانت اول صفقة غير قانونية بين الطرفين المغتصبين، قد تمت بمباركة المندوب السامي البريطاني عام 1921 حيث بيعت قطعة الارض المعروفة باسم (بستان أنتيموس) والتي اقيم عليها المركز التجاري اليهودي في القدس الغربية. أتبعت بعد ذلك، ببيع البطريركية لقطعة أرض في جبل ابو غنيم للصهيونيين، حيث باشروا بناء مستوطنة يهودية في الموقع بين القدس وبيت لحم.

توجه ابناء الطائفة من الفلسطينيين، الى البطريرك المقدسي لحثه على التوجه الى القضاء، في محاولة لمنع اقامة المستوطنة اليهودية، والتي ستقام في جزء منها على اراض تابعة للوقف الارثوذكسي، وكلف المحامي معين خوري متابعة القضية، والذي نجح في استصدار قرار من المحكمة في 21-3-1997، يمنع بموجبه السلطات الاسرائيلية من استعمال ارض الوقف، في موقع مار الياس، المحاذي لجبل ابو غنيم. لكن المدعي العام، طلب من المحكمة، الغاء قرارها السابق، وتغريم البطريركية مصاريف واتعاب القضية، بالاضافة الى تعويض عن الخسائر التي تسبب بها وقف العمل في المستوطنة.

 

الاوقاف الارثوذكسية بادارة يهودي

تبين، فيما بعد، انه في عام 1985، وبعد مرور اقل من اربع سنوات على انتخابه بطريركا للقدس، عين ثيوذوروس الاول، اليهودي حاييم كاهاتي، مسؤولا عن ادارة املاك الوقف التابع للطائفة الارثوذكسية. وكان كاهاتي موظفا كبيرا في دائرة "اراضي اسرائيل"، والتي تشرف على املاك الدولة، والاراضي المصادرة من العرب حتى عام 1994.

ويتواصل نضال الطائفة العربية، في كافة المناطق المحتلة. ففي يافا علم ابناء الطائفة، بأن البطريركية عقدت صفقة لبيع او تأجير قطعة ارض تبلغ مساحتها 5،5 دونمات، بمحاذاة كنيسة القديس جورج ( الخضر) والتي يعود تاريخ بنائها الى العام 1855، لشركة يهودية، وذلك مقابل ستة ملايين دولار. وقد تم ذلك دون استشارة او تبليغ ابناء الطائفة، الذين سرعان ما تقدموا بدعوى لمحكمة العدل العليا، وطلبوا عزل البطريرك من منصبه. رفضت المحكمة قرار العزل.، ودام النظر في القضية مدة ثماني سنوات، اعترفت فيها المحكمة بحق أبناء الطائفة في الملك، وأمرت بالغاء الصفقة بين الشركة اليهودية والبطريركية.

أما في الناصرة، وتحديدا عام 1993، فقد تمكن ابناء الطائفة العرب، من اصدار أمر احترازي، من المحكمة العليا في القدس، ضد البطريرك لمنعه من التصرف بقطعة الارض المعروفة باسم ( قصر المطران) التابعة لوقف الطائفة، والبالغة مساحتها 413 دونما، ويقدر ثمنها ب200 مليون دولار. كتبت صحيفة هآرتس اليهودية بتاريخ 11-12-1992 تقريرا مستندا الى مصادر اسرائيلية ما يلي:

"غموض شديد يكتنف املاك الكنيسة اليونانية (اي الارثوذكسية). فقد تمكنت البطريركية من بيع او تأجير جزء كبير من الاملاك التي كانت تابعة لها عام 1948، وبالاساس في الاراضي الخلاء. في الخمسينات والستينات عقدت صفقات مع الجهات الرسمية لدولة اسرائيل فقط. وفي السبعينات والثمانينات بدأت بالبيع لأفراد من رجال الاعمال، جميعهم من من الاسرائيليين او اليهود، احياء سكنية عديدة في جميع أنحاء البلاد اقيمت على اراضيها. عشرات الاف الاسرائيليين يسكنون في منازل اقيمت على اراض أجّرتها "البطريركية الارثوذكسية" للدولة "اسرائيل" لمدة 99 عاما، في نهاية هذه المدة عند منتصف القرن المقبل، ستصبح مسألة من يسيطر على املاك البطريركية مسألة مهمة جدا".

عقد في القدس مؤتمر خاص، اقيم حول الاملاك في دولة الكيان المغتصب. دعا المشاركون الصهاينة، الحكومة الى سن قوانين من شأنها منع اعادة الاملاك التي تستأجرها الدولة والشركات والافراد من الطوائف المسيحية لمدة طويلة.

وتحدث احد المشاركين مبينا ان المقر الدائم لرئيس دولة "اسرائيل" في حي الطالبية في القدس الغربية، قائم على قطعة ارض مستأجرة منذ بداية الخمسينات من الكنيسة الارثوذكسية، وان هذا المقر اصبح خلال ما يزيد على اربعين عاما معلما من معالم" اسرائيل" وجزءا من تراثها، ويعني الكثير للاسرائيليين. لذلك فان تنازل الدولة عنه، يعني تنازلا عن جزء من التراث الاسرائيلي.

هذا، في الوقت الذي طالب البطريرك ثيوذوروس، باستعادة مبنى للطائفة الارثوذكسية، كان موضوعا تحت تصرف الاوقاف الاسلامية منذ اكثر من 800 سنة، وهذا المبنى معروف بخانقة الصالحية، والذي كان بطريرك القدس قدّمه للسلطان صلاح الدين الايوبي عام 1188م. اكراما له على اعادة السيطرة الارثوذكسية العربية على جميع الاملاك، التي انتزعت منهم خلال فترة الصليبيين وسلمت للّلاتين.

 

المعارضة اليونانية

تلقى سياسة البطريرك الحالي معارضة، حتى ضمن القيادة الروحية اليونانية، ولعل من ابرز رموز هذه المعارضة هو المطران نيكوفوروس القسطنطيني.

قال المطران نيكوفوروس ل"الشرق الاوسط": " ان ثيوذوروس يتحكم بالبطريركية واملاكها بشكل "ديكتاتوري" مما أساء لرجال الدين في أعين الناس، ونزع ثقة الرعية، أي أبناء الطائفة العرب بالقيادة الروحية، لذلك من الواجب، بل من مسؤوليتنا الأساسية ان نقاوم البطريرك بلا هوادة".

وعن سبب خلافه مع البطريرك ثيوذوروس يقول المطران نيكوفوروس أنّهُ اختلاف الرؤية لضرورة التعاون بشكل اساسي مع ابناء الطائفة، اذ لا راعي بدون رعية. ولكن ثيوذوروس لا يتفق مع هذا الرأي، بل يقاومه بشدة.

أخيرا ، دعا المطران اليوناني المعارض نيكوفوروس القسطنطيني ابناء الطوائف الارثوذكسية في جميع أنحاء العالم لرفع صوتهم ضد البطريركية المقدسية، المدعومة من السلطة السياسية، ودعا الى انعقاد مجمع كنسي مسكوني لجميع الارثوذكس في العالم من أجل اصلاح الوضع.

مع ذلك فيبدو أنّ العرب ، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، لا تعي أهميّة هذا التحرك على جميع الأصعدة، لتعزيز صمود ومقاومة فلسطينيي الداخل، والذين يقاومون احتلالين في آن معا، اذ ان نضالهم هو جزء من نضال الأمة بأسرها عامة، ونضال الشعب الفلسطيني في الداخل خاصة. ان صراخهم لا يلقى حتى التغطية الاعلامية الكافية، وحتى لا يكون صراخهم كمن يصرخ في واد، علينا التحرك العملي والفاعل...

 

البطريرك ثيوذوروس والدور المشبوه

لم يعرف الشرق الكاثوليكية الا متأخرا حين جاءت مع الاحتلال الصليبي لفلسطين ولبنان واجزاء من شرق الاردن وسورية. في مجمع نيقيا تم الاعتراف بالقدس كمركز رابع من حيث الأهمية للايمان المسيحي بعد روما والاسكندرية وأنطاكية، الا انها ظلت أسقفية خاضعة لسيطرة قيصرية حتى عام 451 لدى انعقاد المجمع المسكوني الشهير في بلدة خلقدون الذي صادق على تعيين اول بطريرك للقدس ويدعى بوفيناليوس.

البطريرك ثيوذوروس، والبالغ من العمر 74 عاما، والذي جاء الى فلسطين فقيرا، يملك الآن بحسب معلومات متعددة المصادر، عدة منازل كبيرة وفخمة في قبرص والاردن، وتركيا، بالاضافة الى الى قصر بالقرب من أثينا في اليونان.

وفي 13 شباط 1987، وأثناء تفتيش دقيق أجرته السلطات الصهيونية لسيارته الخاصة، أثناء عبوره جسر اللنبي من الاردن الى الضفة الغربية ، عثر على 200 سبيكة ذهبية، واربعة كيلو جرامات ونصف كيلو من الهيرويين.

وفي عام 1995، قام ثيوذوروس بتسليم رابين وبيريز وسام السلام في جبل الزيتون في القدس المحتلة، مما أثار ضجة واسعة، وفسر على أنه اعتراف من رئيس الكنيسة الأرثوذكسية بالسلطة الاسرائيلية على القدس الشرقية.

 

تبرئة اليهود من دم المسيح

لمناسبة انعقاد المجمع المسكوني في مدينة الفاتيكان العام 1965 رفعت دائرة الشؤون الدينية المسيحية التابعة للهيئة العليا لفلسطين، باسم المسيحيين الفلسطينيين مذكرة الى المجمع، بشأن مشروع القرار المتعلق بتبرئة اليهود من دم المسيح. جاء في المذكرة:

ان المسيحيين العرب الفلسطينيين يأملون، ان قداسة البابا ورؤساء الكنيسة الكاثوليكية المجتمعين، في المجمع المسكوني التاريخي العظيم، سوف يعلنون على العالم، ان الكنيسة الكاثوليكية لا تقبل، ولا تتسامح، بشأن الظلم الواقع على الارض المقدسة، وان المسيحيين العرب الفلسطينيين، يناشدون قداسة البابا الامتناع عن اصدار تبرئة اليهود المقترحة، لأن مثل هذه التبرئة، ستقوي الحركة الصهيونية، وتضع في يدها، سلاحا معنويا قويا للتمادي في برنامجها السياسي البغيض المعادي للسيد المسيح والمسيحية.