أعادت سلوى شهيل خضيري، إحدى الناجيات من مجزرة نفذتها الطائرات الإسرائيلية في ظهيرة أول يوم لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، بناء اللحظات المرعبة، التي أعقبت قصف شاحنة كانت محملة بعشرات الناس والأطفال الفارين إلى الأردن.

تروي وهي تمسك صورة بالأبيض والأسود، التقطتها عائلتها قبل أيام من نكسة عام 1967: استشهد أخي هشام (سنتان ونصف)، وهو في حضن أمي (فاطمة يوسف عوض) التي أصيبت بشظايا، وخسرنا أختي أسمى (سبع سنوات)، وأصيب أخي جلال في قدمه، واحترق شعر شقيقي جمال وأنقذه ابن عمي غالب فهيد من الموت، بعد أن حمله وأبعده من الشاحنة قبل أن تنفجر، أما أنا فبترت ساقي اليمني، وفقدت أصبعين من يدي اليمنى، كما استشهدت رقية غوانم، وإخلاص عبد اللطيف خضيري (7 سنوات)، وشقيقها أيمن (سنتان)، ويوسف صبري أبو عليان (12 سنة)، وشقيقته تغريد (9 سنوات). وأصيبت ربيحة المصري في الرأس، وأصيب يزن صبري ثم استشهد، وفقدت جميلة حامد مساعيد عينها.

تختزل سلوى خلال الحلقة الثانية عشرة من برنامج 'أصوات من طوباس' الذي تنفذه وزارة الإعلام: بالفعل كانت مجزرة، ولحظات مرعبة لا زالت تعيش في صدورنا إلى اليوم، ونتألم من رصاصها، ومنذ وقت قريب أخرجنا شظايا القذائف من جسد أمي، التي تتجنب الحديث عن المجزرة؛ لحزنها على أخوتي.

كانت آخر لحظات وعي سلوى بعد القصف، مشاهد الجثث والجرحى، وشعورها بالعطش الشديد وهي تنزف، ما دفعها لطلب الماء من أحد الجنود الأردنيين الذين وصلوا لإسعافهم، لكنه رفض، ورد عليها بالقول: الماء سيزيد من النزيف.

ووفق خضيري (51 عامًا)، فقد شاهدت طائرة إسرائيلية ترش على الحافلة مادة بيضاء تشبه (البودرة)، قبل أن تفرغ حمولتها من القنابل، بعد أن اجتازت نهر الأردن، ووصلت الضفة الشرقية منه، بجانب إحدى بيارات البرتقال بالشونة الجنوبية، داخل أراضي المملكة.

تقول: كانت معنا عائلات عمي مشهور( أبو رياض)، وغازي (أبو حسن)، وجميل (أبو هيثم)، وحسن (أبو غازي)، وجيراننا من عائلة صبري، وأناس لا نعرفهم. وقد خرجنا من طوباس في وقت مبكر من يوم 5 حزيران، وتعطلت السيارة التي ركبنا فيها، واختفينا لحين إصلاحها داخل عبّارة للمياه في العوجا، قرب أريحا، ثم صعدنا لشاحنة ثانية، عبرت بنا النهر.

تستذكر: كلما أمر من العوجا، خلال سفري لعمان، تعود إليّ اللحظات القاسية التي عشناها، حين تعطلت السيارة، وكيف احتمينا في العبّارة، وكلما أسمع عن حادث أو قصف وشهداء، تعود إلى ذاكرتي المشاهد الفظيعة التي ألمت بنا في أول يوم من احتلال الضفة الغربية وغزة.

تتابع: عملت آمنة صبري أبو عليان، الناجية من القصف، بمساعدة رجل من العوجا على إخلاء المصابين، ودفنت الشهداء، ووجدت شقيقها معلقاً على شجرة. ومما أخبرتني به بعد أن التقينا، أنها لم تميز سوى جثث أخوتها، أما سائر الأطفال والشهداء فكانت هويتهم مجهولة لها، ولولا أنها لم تكن معنا لتضاعف عدد الشهداء، فقد كانت رغم صغر سنها، قوية القلب، ولا تخشى من شيء، وعملت دور المسعف وحافر قبور الشهداء.

استردت خضيري الوعي في مستشفى الأشرفية بالعاصمة الأردنية، الذي وصلته مع غروب يوم النكسة، وعادت إلى طوباس بعد أن فقدت ساقها، وأصبعين من يدها، لتبدأ بالعلاج لأكثر من شهر في المستشفى الوطني بنابلس.

تقول: بسبب المجزرة، عشت مع ثلاثة أطراف صناعية خلال 48 سنة، وانقطعت عن دراستي، فقد كنت في الصف الأول الإعدادي (السابع اليوم)، وأكملت دراسة الثانوية العامة سنة 1973، والتحقت بجامعة بيروت العربية لتعلم الجغرافية، لكن الحرب منعتني من إكمال سنتي الرابعة. وعملت مدرسة لثلاث سنوات، ثم اشتغلت في روضة، ونلت درجة الدبلوم في الغذاء الصحي، وأتنقل بين طوباس وعمان والإمارات، حيث أولادي الاثنين وابنتي الوحيدة.

ولا تكاد المجزرة تغادر من ذاكرة كبار السن في بلدة طوباس، الذين يلمون ببعض تفاصيل المجزرة، ويختزلونها بالإشارة إلى سلوى خضيري، باعتبارها أول فتاة جريحة في طوباس وربما في فلسطين بعد النكسة. أما الجيل الجديد فلم تتعرض ذاكرته بعد للمجزرة وتفاصيلها القاسية.

يقول فايز صالح أبو ناصرية (62 عاماً): لا نعرف تفاصيل المجزرة التي حلت بأبناء طوباس خلال النكسة، ولم نقرأ عنها في وسائل الإعلام، وهذا تقصير كبير. فيما يؤكد الشاب أحمد دراغمة، أنه لم يقرأ أو يسمع شيئاً عن المذبحة، بالرغم من أنها مؤلمة جداً.

بدوره أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف، إن 'أصوات من طوباس' سيشهد تطوراً من حيث الشكل، وسينحاز للتوثيق المرئي، وبخاصة فينا يتعلق بالشهادات الحية والشفهية كمجزرة الشاحنة، التي يمكن تصنيفها كأول قصف إسرائيلي لسيارة فلسطينية، وهي السياسة ذاتها التي يواصل الاحتلال استخدامها.

وأضاف إن الوزارة ستخصص- وبشكل استثنائي- ثلاث حلقات متتالية الأسبوع القادم من هذا البرنامج الشهري، لتوثيق شهادات وروايات عن نكسة عام 1967 في ذكراها السنوية.