تغرد العصافير وتتمايل أغصان الشجر محتضنة نسمات الربيع وتتناثر الزهور والورود.. لكن تلك الورود بالرغم من ألوانها المختلفة التى تبعث فى النفوس السعادة والبهجة، ذبلت بعدما سادت حالة من الحزن أركان منزل صغير فى حجمه، كبير بما يحويه من رمز للنضال الفلسطينى، إنه منزل عميد الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال الإسرائيلى كريم يونس.

وداخل هذا المنزل الصغير، الذى يقع فى قرية عارة، وهى قرية عربية تقع فى منطقة وادى عارة فى منطقة المثلث الشمالى فى فلسطين المحتلة عام 48، تجلس والدة عميد الأسرى كريم يوسف فضل يونس (57 عاما) والذى دخل يوم 6 يناير الماضى عامه الثانى والثلاثين فى سجون إسرائيل.

"كريم ذو شخصية قوية" .. هكذا بدأت الأم صبحية وهبى يونس، البالغة من العمر 79 عاما، حديثها بصوت عال وقوى وبكلمات واضحة بالرغم من علامات الحزن والأسى التى تظهر عليها، جالسة على أريكة قبالة مدخل المنزل، تمسك بيدها عصا تتوكأ عليها.

لم تنجح التجاعيد التى رسمها الزمن على تقاسيم وجهها فى محو القوة التى تنبعث من عينيها، لكن مرور الزمن وعذاب الفراق أزالا الابتسامة من على شفتيها، وهى تقول "كريم ذو شخصية قوية، ومتعلم، فقد كان يدرس فى السنة الثالثة فى جامعة بئر سبع عندما صار ما صار".

وهنا بدأ صوتها يخفت قليلا وترقرقت عيناها بالدموع قائلة "وجه له تهم لا أعلمها.. لا أعلم إن كانت مضبوطة أم لا.. كل ما أعرفه أنه وجه له تهمة بقتل جندى إسرائيلى هو وماهر ابن عمه.. لكنى لا أعلم هل هذا صحيح أم لا...الله أعلم".

وصمتت أم كريم يونس لوهلة لكن ما لبثت أن سردت تفاصيل اعتقال ولدها وعيناها امتلأت بالدموع قائلة "تم اعتقاله من بين الطلاب فى جامعة بئر سبع، ليلتها جاء الجنود الإسرائيليون، وكانت ليلة شتاء فى العام 1983، وسألوا عن كريم قلت لهم إنه يدرس فى جامعة بئر السبع، ولم يجدوه فغادروا المكان، وذهبوا إلى الجامعة وسألوا عنه واعتقلوه أمام زملائه".

وهنا انجرفت الدموع من عينيها قائلة: "ماذا أفعل؟ ظللت 32 سنة أبكى وعندما أزوره فى السجن، يقول لى لماذا أنت حزينة يا أمى؟ فهناك 11 ألف سجين وأنا واحد منهم.. أليس هؤلاء السجناء شبابا ولهم أهل ولهم زوجات؟ وأنا واحد من هؤلاء الشباب.. فلا تبكى يا أمى".

هذا هو المناضل الفلسطينى القوى "كريم يونس" الذى ولد يوم 24/12/1958 فى قرية عارة وهو الأكبر بين ثلاثة أشقاء وشقيقتان، وقد أنهى دراسته الابتدائية بمدارس قرية عارة والثانوية فى الناصرة،  ثم التحق بجامعة بئر السبع قسم الهندسة الميكانيكية.

وخلال السنة الدراسية الثالثة وبالتحديد يوم 6/1/1983 اعتقلته السلطات الإسرائيلية، وبعد التحقيق معه وجهت له النيابة العسكرية تهمة الانتماء إلى منظمة فتح المحظورة، وحيازة أسلحة بطريقة غير قانونية وقتل جندى إسرائيلى.

وقد حكمت عليه المحكمة العسكرية فى مدينة اللد فى بداية اعتقاله بالإعدام شنقا،  وتم بالفعل إلباسه الزى الأحمر المخصص للمحكومين بالإعدام حين حضر ذووه لزيارته بعد الحكم، بهدف التأثير على معنوياتهم، وإيصال رسالة لكل مواطنى الداخل بأن هذا جزاء من يقاوم الاحتلال الإسرائيلى، وبعد شهر عادت محكمة الاحتلال، وأصدرت حكما بتخفيف العقوبة من الإعدام إلى السجن مدى الحياة.

وتابعت الحاجة صبيحة موضحة أنها زارته فى كل السجون الإسرائيلية التى نقل إليها خلال الـ32 سنة الماضية، حيث تنقل كريم بين كل من سجن الجلمة،  الرملة،  عسقلان،  نفحة،  بئر السبع،  الشارون،  مجدو،  واليوم لا يزال يقبع فى سجن هداريم.

وأكدت أنها لم تقطع زيارته ولا مرة واحدة .."زيارته كانت أهم شىء بالنسبة لى ولوالده رحمه الله، وفى الآونة الأخيرة مرضت ولم أستطع المشى، لذلك أذهب كل شهر مرة ومرات أكثر ومرات أقل وأنا جالسة على كرسى متحرك".

وحول المعاناة التى ذاقتها عند زيارته فى السجون، تقول أم كريم "كانت المعاناة فى الوصول إلى السجون صعبة، أمضى فى معتقل نفحة الصحراوى لمدة 6 سنوات، كنا ننطلق من الساعة الخامسة صباحا، ونستقل أربعة أتوبيسات باتجاه معتقل نفحة (النقب- طريق متسبيه ريمون)، نستقل الأتوبيس من هنا إلى "الخضيرة" ومنها إلى تل أبيب، ومن تل أبيب نسافر بالأتوبيس المتجه إلى بئر السبع ومن ثم نستبدله بآخر متجه إلى متسبيه ريمون (فى النقب)، نقضى الوقت فى الطريق لطول المسافة ونعود إلى المنزل فى السابعة مساء".

وترقرقت عيناها مجددا بالدموع وهى تتذكر آخر زيارة له قائلة: "آخر مرة زرته فى السجن كانت روحه المعنوية عالية وعندما رآنى، قال لى لما يا أمى أنت حزينة؟ فأنا لم أسجن على عمل شىء مخجل..لماذا تخجلى؟ أنا لم أسجن على شىء تستحى منه، انا سجنت على شىء مشرف".

حقا هذا هو الأسير الفلسطينى كريم يونس، صاحب الشخصية القوية، المناضل لقضيته الوطنية، والذى لم تقيده سلاسل السجان من إكمال تعليمه الجامعى. . فخلال وجوده فى سجون الاحتلال الإسرائيلى، التحق كريم بالجامعة المفتوحة قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وبعد مرات عدة من التوقيف من قبل سلطات الاحتلال، استطاع إنهاء تعليمه الجامعى.

واليوم وبعد مرور 32 سنة، يشتاق عميد الأسرى لنسيم الحرية بعدما أدرج اسمه ضمن الدفعة الرابعة والأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو والتى من المقرر الإفراج عنها /غدا/ 29 الشهر الجارى.

فى يوم الاثنين الماضى، ذهب "نديم يونس"، شقيق عميد الأسرى، لزيارته فى سجن هداريم، متمنيا أن تكون هذه آخر زيارة له فى السجن. وقال "رأيته هو وماهر يونس – معتقل منذ 18 يناير 1983 – وكانا متفائلين جدا بالخروج هذه المرة".

وتابع "هذه الصفقة الأخيرة جاءت بعد عدة خيبات أمل...فقد تم إدراج اسمهما فى صفقات عديدة قبل ذلك، منها عام 85 وعام 90 وعام 2000 وتم استثناءهم فى كل الصفقات بالرغم من أن أولوية الإفراج كانت لهما لأنهما الأكبر ومن قدماء الأسرى".

وأضاف "لكن هذه الاتفاقية الجديدة جاءت بعد ما وافق الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن العودة إلى المفاوضات بعد انقطاع ثلاث سنوات، وحينها قال أبو مازن أول شىء وأول استحقاق للرجوع للمفاوضات هو إطلاق سراح الأسرى وأولهم ما قبل أوسلو".

وكان كريم يونس، رمز النضال الوطنى الفلسطينى، يتابع عن قرب سير المفاوضات الأخيرة وكان على اتصال دائم مع السلطة الفلسطينية وكان يبعث برسائل كثيرة للرئيس أبو مازن تحديدا مؤكدا على طلبه عدم التنازل عن الثوابت الوطنية الفلسطينية والتمسك بها حتى قبل الحصول على حريته.

هذا ما أكده فى رسالة كتبها ونشرتها وزارة الأسرى يوم 18 مارس 2014، قائلا بكل عزيمة وإصرار "إننا أسرى الداخل الفلسطينى نرفض المحاولات الإسرائيلية العنصرية باستخدامنا ورقة مساومة للضغط على الرئيس والقيادة الفلسطينية على حساب حقوق شعبنا العادلة...ولا نتطلع إلى خلاصنا الشخصى بقدر ما نتطلع إلى خلاص شعبنا من نير الاحتلال".

وفى حال عدم التزام إسرائيل بالإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى وخاصة أسرى الداخل، قال نديم يونس، فى نبرة وعيد "سيكون الاحتجاج قوى وعنيف خاصة على إسرائيل وسنطالب أبو مازن بمقاطعة جميع المفاوضات".

اثنتان وثلاثون عاما وكريم يونس يبحث عن كيانه الإنسانى والوطنى، وقد مرت عليه حروب واتفاقيات وصفقات، ولا يزال يتحدى السجان بابتسامته العريضة وبكتابة مقالاته السياسية والأدبية والفكرية أثناء تواجده فى السجن.

فقد أصدر كتابان الأول بعنوان "الواقع السياسى فى إسرائيل" – عام 1990 من داخل معتقل نفحة، تحدث خلاله عن جميع الأحزاب السياسية الإسرائيلية، أما الكتاب الثانى فكان بعنوان "الصراع الأيديولوجى والتسوية" عام 1993 بمشاركة الأسير عادل عيسى.

وبالرغم من مرور أكثر من ربع قرن، لم ينس أصدقاء كريم صديقهم، فهم دائمو السؤال عنه وعن أخباره ويتفقدون والدته، من بينهم "نادر يونس أبو وسيم"، وهو أيضا أحد الأقارب.

فى البداية أثنى أبو وسيم على كريم قائلا: "كريم شخص قيادى، فهو يتسم منذ صغره بكل صفات القيادى"، لكنه ما لبث وأعرب عن تخوفه من مدى التزام إسرائيل هذه المرة بالإفراج عنه، قائلا فى حذر "نحن لا نعلم.. لكن عند الإفراج عنه، نحن كأهل بلده مستعدون أن نساعده بكل الإمكانيات..  وحتى لو لا قدر الله لم يفرج عنه لن يهزه هذا الخبر، فكرة أن يكون تحريره على حساب القضية هى فكرة يرفضها تماما".

أما صديق الطفولة، "نادر يونس"، فقد ظهر على وجهه الحنين إلى الماضى وخفت صوته وهو يستعيد ذكريات جميلة مرت به فى طفولته وفى شبابه مع كريم يونس ولم تفارقه يوما حتى الآن.

استرسل نادر يونس فى كلامه، قائلا "اسمه كريم وهو حقا كريم فى صفاته، يده ممدودة لمساعدة الآخرين ودائما يقف مع الحق ولا يتنازل عن حقه".

وتابع "يكمن الأمل بداخله فيصبح مصدر قوته ومصدر قوتنا نحن أيضا.. دائما يأمل بالإفراج عنه هذا بالإضافة إلى شخصيته القيادية التى ساعدته على قضاء أكثر من 30 سنة فى السجن".

وعندما علم كريم يونس بخبر وفاة والده يوم 6/1/2013 والذى صادف ذكرى اعتقاله ودخوله العام الواحد والثلاثين خلف قضبان السجون الإسرائيلية، طلبت العائلة أن يسمح له بقضاء واجب العزاء أو يشارك فى التأبين.. لكن لم يسمح له.

ولم يجد سبيل سوى أن يكتب قصيدة من داخل محبسه فى رثاء والده، منها: "سامحنى يا أبت وقد خارت قواك وما كنت قربك سامحنى لأنى وعدتك – لأنى خذلتك ولأنى أنا من كسرت ظهرك سامحنى لأنى جعلت من رحلتى دهرا – حتى رحلت سامحنى لأنى عشت استنشق غبار الأمل وما بكيت".

ويشهد منزل عميد الأسرى الفلسطينيين اليوم فيضا من المشاعر الممزوجة بالحزن والأسى والحنين والشوق وتعب الانتظار، لكن وسط كل هذا ينبثق شعاع من الأمل وروح التفاؤل بقرب الإفراج عنه، ويتجسد هذا التفاؤل فى "ريم يونس"، زوجة شقيقه "نادر يونس".

فقد عملت ريم، والتى أصبحت عضوا فى عائلة يونس منذ أربع سنوات فقط، على جمع كل ما يخص الأسير كريم يونس من رسائل وصور ومعلومات .. ومن هنا جاءت فكرة الفيس بوك.

وبصوت يملؤه الأمل وبتفاؤل بقرب انتهاء المعاناة، قالت ريم: "بدأنا بعمل حساب باسم "الأسير كريم يونس" ونشرنا من خلاله كل ما يخص الأسير فقط، وبدأ الأمر بالعائلة وأخواته ثم توسع الأمر، فأنشأنا صفحة بنفس الاسم وصار هناك الآلاف من الأصدقاء ليسوا فقط من أهل المدينة وإنما أيضا من غزة ومن الجزائر، كانوا أسرى مع كريم وتحرروا من خلال صفقات وبعثوا لنا صورهم مع كريم وقصص عنه".

وتابعت: "عندما علم كريم بفكرة صفحته على الفيس بوك، فرح كثيرا لأنه علم بأصدقائه وانه يمكن التواصل معهم وأيضا أصدقاء آخرين لم يكن يعرفوه لكنهم تعرفوا على شخصية كريم يونس من خلال الفيس بوك".

وقالت ووجهها تملؤه الابتسامة: "نحن ننتظر لحظة أن يخرج كريم ليرى الفيسبوك ويرى كم شعبيته وكم حب الناس له ..فأنا شخصيا تعرفت على كريم أكثر وأكثر من أصدقائه على الفيس بوك".

اثنتان وثلاثون عاما وكريم يونس يصمد ويقاوم الاحتلال من وراء القضبان، وقد تسلم راية "عميد الأسرى" بعد إطلاق سراح الأسير نائل البرغوثى من رام الله فى إطار صفقة وفاء الأحرار، كذلك بعد الإفراج عن الأسير "سامى يونس" من عارة فى إطار صفقة الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط.

واليوم جاء دور الأسير كريم يونس ابن قرية عارة ليرى نور الشمس ويتنفس نسيم الحرية، متمتعا بحقه الوطنى والسياسى على أرضه فلسطين، متمسكا بثوابت قضيته، صامدا كعادته فى وجه الاحتلال الإسرائيلى ومجسدا قصة نضال عمرها 32 عام خلف قضبان الاحتلال.

"خلف القضبان.. أنام فى الليل والكابوس يزعجنى.. ووحدة السجن ما أقسى لياليها..هناك 32 سنة من السنوات أحسبها.. وساعة الشوق ما أقسى معانيها".. كريم يونس.