مفهوم ومعلّل تحذير أميركا للسلطة من مغبّة حلّ نفسها، لأسباب ترقى إلى زمن (م.ت.ف) وزمن السلطة.. والآن زمن الدولة!
في زمن المنظمة في بيروت، وجهت واشنطن شكراً أول لإشراف قوات المنظمة على إجلاء الرعايا الأميركيين من بيروت (الشرقية والغربية) عن طريق مرفأ بيروت (بل وحرس جيش التحرير الفلسطيني السفارة الأميركية).
يقودنا هذا المعروف، إلى جواب الوسيط الأميركي فيليب حبيب لترتيب خروج القوات الفلسطينية المحاصرة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982. قال للوسطاء اللبنانيين: أخبروا عرفات أن الخروج الفلسطيني "قرار دولي".. ومن ثم؟ قاد الأسطول السادس أساطيل دولية لترحيل القوات الفلسطينية.
من دور أميركا في "الخروج المشرّف" والمحمي للقوات الفلسطينية، إلى دورها "الدولي" في رعاية توقيع إعلان مبادئ أوسلو، أي دورها في دخول "السلطة" إلى أرض فلسطين.
الخروج كان توافقاً دولياً (وعربياً وإسرائيلياً) والدخول كان اتفاقاً ثنائياً مفاجئاً، ثم دولياً احتفالياً. الخروج قاد لأوسلو، وهذه قادت إلى السلطة، والسلطة تقود إلى الدولة.. والولايات المتحدة، منذ ولاية بيل كلينتون إلى ولاية جورج بوش الابن، إلى ولاية باراك أوباما، ضالعة في مشروع الدولة الفلسطينية.. ومن قيادة رباعية مدريد، إلى إعلان بوش الابن "الحل بدولتين"، صارت الدولة الفلسطينية مشروعاً دولياً تقوده الولايات المتحدة.
أخذ العروبيون (والفلسطينيون بخاصة) على الرئيس أنور السادات قوله قبل معاهدة صلح كامب ديفيد أن 99% من أوراق الحل في يد الولايات المتحدة. من الواضح أن المشروع الدولي للدولة الفلسطينية تقوده الولايات المتحدة، ربما بنسبة 99% وربما بنسبة 90%.
صحيح أن عرفات ثم أبو مازن حاول ويحاول، سياسياً، أن يصل إلى المعادلة التي تعمل بها "المعدة".. أي "قلوي" المشروع الأميركي للدولة و"حمضي" هو دور الشرعية الدولية كما تجسدها الأمم المتحدة ومنظماتها. يعني؟ محاولة لتجنّب "وضع البيض كله في السلّة الأميركية" كما في قرار الجمعية العامة 2012 معاملة دولة فلسطين دولة غير عضو.
الواقع أن "بيض الدولة" يوجد ثلثه في مؤسسات الأمم المتحدة، وأما البقية ففي السلّة الأميركية، وبهذا نفسر دعم أطراف الرباعية، وبخاصة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لاحتكار أميركا لسلة بيض الدولة الفلسطينية!
لعلّ مستشار الأمن القومي للرئيس ريغان، السيد زبغنيو بريجنسكي يفسّر تطور الموقف الأميركي من زمن المنظمة إلى زمن الدولة. في زمن كانت فيه المنظمة هي "مظلة الحركات الإرهابية في العالم" وثاني أخطر عدو لأميركا بعد كوبا فيدل كاسترو، قال بريجنسكي: ألقينا صنانير وشصوصا للمنظمة.. والآن "غود باي بي. إل. أو".
الآن، يدعو بريجنسكي وآخرون إلى "فرض" مشروع حل أميركي على الطرفين، وهو حل قريب من مشروع كلينتون وبوش وأوباما.. وحتى المشروع الفلسطيني للدولة وحدودها، والمبادلات الجغرافية، وحتى للقدس، أيضاً (حسب مبادئ كلينتون: ما هو يهودي لإسرائيل، وما هو عربي لفلسطين).
صحيح، أن انطلاق العمل الفدائي كان "قراراً مستقلاً" فلسطينياً، لكن تشكيل (م.ت.ف) قبله كان قراراً عربياً، وخروج قوات المنظمة من بيروت 1982 كان قراراً دولياً.. إلى أن نصل إلى يومنا هذا، حيث كان قرار دخول المنظمة لفلسطين قراراً ثنائياً ثم دولياً، وكذا صار مشروع السلطة، وكذا صار مشروع الدولة!
الفلسطينيون أعلنوا استقلال الدولة على الورق 1988، وكان هذا آخر قرار فلسطيني مستقل.. لكن صارت إقامة الدولة سياسياً مشروعا دوليا تقوده أميركا، وبخاصة منذ إعلان بوش الابن مشروع "الحل بدولتين".
كم هذا بعيد عن زمن ما بعد حزيران 1967، حيث كان موضع الفلسطينيين من الحل الأميركي هو لا أكثر من "حلّ عادل لمشكلة اللاجئين".
إذا قررت أميركا أمراً سياسياً فهي مصمّمة عليه ومثابرة في تحقيقه، وطرف في بنائه وتمويله مباشرة أو غير مباشرة (أموال الدعم الأوروبي والأميركي).
لذلك، نفهم التحذير الأميركي الحاد للسلطة الفلسطينية من مغبّة حل نفسها، لأن واشنطن استثمرت جهوداً وأموالاً في بناء مؤسسات السلطة؛ ولأن أميركا لا تريد أن ترى جهودها بدداً.. وأولاً، لأن قرار حل السلطة ليس قراراً فلسطينياً منفرداً، بعدما صارت الدولة مشروعاً دولياً (أميركياً أولاً) ولا تريد أميركا أن يمرّ طريق الدولة عبر إشارة مرور خضراء من الأمم المتحدة، بل بإشارة مرور أميركية.
الفلسطينيون منقسمون حول حل الدولتين أو الدولة المشتركة، وحول "حلّ السلطة" وكذلك الإسرائيليون، لكن العالم متحد حول "حل الدولتين" وضد أي قرار فلسطيني بحل السلطة، لأنه "تفليسة" سياسية للنضال الفلسطيني، ولأنه "تفليسة" للجهود والأموال والمشاريع الدولية.. والأميركية بالذات.
هناك مثل أميركي يعود للاقتصادي ديل كارنيجي: "لا شيء ينجح كالنجاح!".