ربما كانت سيرة بني إسرائيل كشعب ، على مرِّ التاريخ ، مليئةً بالمآسي والسوداوية ، والتجارب التي تؤكد على جبروت الإنسان وظلمه اللا محدود لأخيه الإنسان ، حين تتيح له سطوته وقسوته ، على المستضعفين في الأرض ، وعلى الرغم من تأييد الله لهم ، بالرسل والأنبياء والكتب السماوية المتعددة ، وبالمعجزات الخارقة ، لكل قوانين الطبيعة والمنطق ، إلا أنهم ونظراً لعصيانهم لتعاليم الله ورسله ، سلَّط الله عليهم ، من يذيقهم من ألوان العذاب ، ومن التهجير والتيه ، إلى فيافي الأرض وصحاريها ، ما جعلهم من أكثر الأعراق تشتتاً وتوزعاً على وجه الأرض .

ويُعتبر ما قام به نبوخذ نصر، القائد الآشوري المعروف ، من أقسى تجاربهم على الإطلاق ، حيث شتت شملهم ، وأعمل فيهم سيفه على مرحلتين ، في السبي الأول والثاني ، وشرَّد من بقي منهم من بلاد الرافدين ، فهاموا في كل اتجاه ، فلجأ بعضهم إلى بلاد الشام ، وتحديداً في منطقة السامرة ، وأقاموا فيها نواة لمملكة جديدة ، فهاجمهم نبوخذ نصر من جديد ، وأباد أغلب مقاتليهم ، وسبى نسائهم ، واتخذهم عبيداً وخدم وجواري ، ولم تقم لهم بعد ذلك مملكة مستقلة أبداً .

توجَّه بعضٌ ممن نجا منهم ، من بطش نبوخذ نصر، إلى شرق الجزيرة العربية ، حيث موطن النبي المنتظر ، ومهبط الرسالة الجديدة ، حسبما أخبرهم أحبارهم ، و ذكرتها كتبهم ، حيث أقاموا هناك لأجيال في انتظار تحقق النبوءة ، عسى أن يكون النبي الأخير منهم ، حتى أنهم كانوا يسمون بعضا من مواليدهم محمداً، لأن النبي القادم سيكون اسمه محمد، حتى حان الوقت الموعود ، فخاب ظنهم ، وأُسقط في أيديهم ، بعد ظهور النبي المنتظر من أشراف قريش ، وبعد أن هاجر سيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام إلى يثرب ، وإتباع أهل المدينة لدينه ومبايعتهم له ، فوقفوا ضده وتحالفوا مع أعدائه من الأحزاب والأعراب والقبائل ، وخانوا العهود والمواثيق التي عقدوها معه ، عليه الصلاة والسلام ،في غزوة الأحزاب ، ونتيجة لخيانتهم ونقضهم العهود ، أجلاهم رسولنا الكريم ، عليه الصلاة والسلام من المدينة ، وصادر ممتلكاتهم ، وبدأت مسيرة تيههم الجديدة ، ثم في مراحل أخرى من خياناتهم ، أمر بقتل رجالهم ، وسبي نسائهم ، ومصادرة أموالهم وحصونهم ، حينها اتجه من بقي منهم ، نحو بلاد الشام من جديد ، واتخذوا منها ملاذاً ومسكناً ، في انتظار أن تسنح لهم الفرصة من جديد ، لإقامة دولتهم المزعومة .

ولأنهم يعيشون هاجسهم الدائم ، بأنهم شعب الله المختار، وأن الله قد ميَّزهم عن بقية خلقه ، ومع أن هذه الميزة حقيقة تاريخية ، إلا أنها انتهت بمعصيتهم لله ، وقتلهم أنبياء الله المرسلين لهدايتهم ورفع الظلم عنهم ، ولذلك أصبح من الصعب ، أن يتعايشوا مع بقية الأعراق والديانات الأخرى ، وينظرون إلى غير اليهود ، نظرة فوقية وعنصرية .

وبالرغم من كلِّ ما ذُكر، مما تعرض له اليهود من ظلمٍ وقسوة ، عبر تاريخهم الطويل ، ورغم تعاطفنا الإنساني الشديد معهم ، إلا أنَّ ذلك لا يعطيهم الحق ولا المبرر، بأن يقترفوا ذلك الظلم نفسه ، على شعبنا الفلسطيني الصابر في أرضه ، ليخرجوه من دياره ، ويصادروا أرضه ، ويرتكبوا في حقه المجازر تلو المجازر ، مدعين بأن هذه الأرض ، هي أرض ميعادهم ، وكأنها أرضٌ بورٌ لا صاحب لها ، ولا سكان فيها ، ولا حق لهم في الحياة على أرضهم ، التي توارثوها جيلاً بعد جيل ، و كابراً عن كابر ، واختلطت طينة هذه الأرض بأنفاسهم ، حتى جبلت أجسادهم بعبقها ، وضربت جذورهم في أعماقها ، وصنعوا تاريخها منذ الأزل ، ولم يأتوا إليها كاليهود فارِّين من موتٍ قد ألمَّ بهم ، و فرضه عليهم عدوٌ قاهر" نبوخذ نصر" وطاردهم بجيوشه من أقصى الأرض ، لأنهم طغوا وتجبروا، ونشروا الفساد والكره لديه ، وكما فعل بهم الطاغية الألماني هتلر، الذي خبِرَهم ولُدِغَ منهم كثيرا، وكشف خبثهم ومؤامراتهم ، فأبادهم إبادة جماعية ، وأقام لهم معسكرات الاعتقال الجماعية الشهيرة في "أوشفتس" ، ولا تزال ألمانيا لغاية الآن ، تدفع للكيان الصهيوني المليارات من الدولارات سنوياً ، تعويضاً وتكفيراً عن تلك الممارسات اللا إنسانية .

فهل يجوز لمن تعرَّض ،عبر تاريخه الطويل ، لأبشع صور الظلم والقهر من طغاة الأرض ، وذاق ويلات الذل والمهانة والعبودية ، ويعرف معنى معاناة الإنسان ، من ظلم أخيه الإنسان ، ومن ثمَّ يتخذ من قهر الآخرين ، سبيلاً لحل مشاكله ، ويحوِّل أرض غيره ، وطناً لبناء أحلامه ، ويجعل من أصحابها عبيداً وخدماً لديه ، وما كانوا يوماً إلا أسياداً في بلادهم ، مسالمين لمن حولهم ، كيف تسوِّغُ لهم أنفسهم ذلك ؟ وكيف يستسيغون ممارسة القهر على الناس ، وهم المقهورون عبر التاريخ .

لطالما أكد العارفون بلغة التاريخ ، أنَّ الأيام دول ، وأن لاشيء مهما طال دائم ، وأنَّ كلَّ القرونِ التي طغت وتجبرت وتعاقبت ،على حكم هذه الأرض ، قد طوتها الأرض في أحشائها ، ولم يعد لها من أثر يذكر ، لولا أن خلدها الله ، بذكرها في قرآنه الكريم ، هذا القرآن الذي ذكر أيضاً ، أن مصير كل ظالمٍ إلى زوال ، وأن بني إسرائيل أيضاً إلى زوال ، وأن علامة زوالهم الأكيدة ، هي تجمعهم على أرضنا فلسطين ، لأنها أرض محشرهم ، وموطئ فنائهم ، ولن تغير قوتهم ولا تجبرهم من الأمر شيئاً ، هكذا قال الله في كتابه الكريم ،إذ قال تعالى في سورة الإسراء : " وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿4﴾ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ﴿5﴾ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴿6﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ﴿7﴾ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴿8﴾ "صدق الله العظيم ، وهكذا بشَّرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ، إلا الغرقد" .

وحتى ذلك الحين ، هل يظنون أننا سنسكت عن حقنا ، ونرضى الدنية في ديننا وأرضنا وعرضنا ، ونترك هذه الشرذمة المارقة ، والخارجة عن كل قوانين الطبيعة والإنسانية ، لتمتهن كرامتنا ، وتسرق حتى أحلامنا ، وتصادر طموحاتنا ، في حياة كريمة تليق بأبناء هذه الأرض المقدسة الطاهرة ، فلابد من وقفة مع الذات ، فمن أراد أن يقف وقفة عزِّ مع التاريخ ، فهذه الأرض تناديه ، وتفتح ذراعيها له ، وستعطيه كما سيعطيها ، أما من آثرالدنيا وزينتها ، وانحاز لمطامع أنانية ودنيئة ، فلا الأرض سترضى عنه ، ولا الشعب سيقبلهم ، وستلفظهم الأرض بتينها وزيتونها ، وسيلفظهم حتى أعداؤهم إلى مزبلة التاريخ ، فهلَّا انتصرنا لهذه الأرض ، كما انتصر لها أبناؤها الأوائل من قبلُ ، "فجنةٌ بالذلِّ لا نرضى بها .. وجهنمٌ بالعزِّ أطيبُ منزلِ " ، فهبُّوا لنجدتها ولتخليصها من براثن الغاصبين ، فهي عروسنا الغالية ، ومهرها مهما غلى سيرخص من أجلها ، ومهما كانت الأهوال ، فإذا كنا نستحقها بالفعل ، فلن نتنازل عنها أبداً ، وسنبذل من أجلها الأرواح ، وتهون في سبيلها كل التضحيات ، فهلمُّوا يا أبناء فلسطين ، فلا نامت أعين الجبناء