هل تعمد إظهار الحمق أو الجنون، من غير الأحمق أو المجنون، هو عقل ما أو لا عقل أو استقالة من العقل؟ أليس تعبيراً آخر عن العقل، يرتدي لباساً مختلفاً، ليعمل ويسلم ويكسب وينتقد وينجو من المآزق المحتملة والباهظة دائماً. ويستخفي من الرقيب، ويهرب من الواقع، وفي تاريخنا مواهب أرهقها طلب العيش بالعقل والجد والكرامة والتواضع المتعالي أو الكبرياء المتواضعة، فوجد أهلها في التحامق (إظهار الحمق) والتجانن (إظهار الجنون) طريقاً، فبلغوا مجالس السلطان وأهل الجاه والثروة، وحفلت بأمثالهم فترة التفكك في العصر العباسي أكثر من غيرها، والسلجوقي خاصة، بفعل انحدار مكانة العلم وسقوط المعايير.
منهم أبو العبر، الحافظ كان جيّد الشعر، متقناً لكثير من الصنائع، وكان معدماً، فاعتمد الحمق، فاكتسب أضعاف ما اكتسبه أي شاعر جاد من رعيله ومجايليه، وقال أحد معاصريه "والله ما كان إلا أديباً فاضلاً، ولكنه رأى الحماقة أنفع"، ومثله ابن صلوة الذي أخذ في الهَزْل والعبْث فحسنت حاله، ومنهم ابو العجل، الشاعر الذي دافع عن حماقته وقال للائمه الفقير: " أعلى الحماقة لمتني / قد كنت مثلك أولاً".
أما ابن المقبل فقد قال: " ولقد قلت حين أغروا بلومي / أيها اللائمون مهلا
حمقي قائم بقوت عيالي / ويموتون أن تعاقلتُ هُزْلا ".
وقال الاحنف العكبري المكدي –أي الشحاذ: " ولست مكتسباً رزقاً بفلسفة / ولا بشعر ولكن بالمخاريقِ ".
هذا ويبدو أن الفئات المهمشة عندما تيأس من الخلاص الجماعي، تميل الى طلب الخلاص الفردي، وتدعو الى الفردية والتحرر من القيم والأفكار السائدة. يقول الغنوي: "الرَّوْح والراحة في الحُمقِ / وفي زوال العقل والخُرْق ". وما نفع العلم في زمان جاهل !
ويقول ايضاً: "إذا كان الزمان زمان حمق / فان العقل حرمان وشؤمُ".
وتبلغ المعاناة ذروتها عندما يفقد العالِم أو المثقف أو الفنان المهمش شعوره بالإخاء والانتماء جراء نبذه وعزله، يقول العكبري: " والخُنْفَساء لها من جنسها سكن / وليس لي مثلها إلف ولا سكنُ ".
لقد حظي الأدب المطواع والرخيص والمبتذل والنفاقي باهتمام كبير، أما الأدب المشاكس فقد همش، همش هو وأصحابه والذين عبروا عنهم وعن آلامهم وسخريتهم ومرارتهم، هذا وإن كانت قلة من الباحثين يرفعون الهوامش ويدخلونها في الذاكرة المتكررة والموصولة في مشاهدها، ويؤكدون ان جمالية الأدب ليست حكراً على أدب المنعمين، ولقد كان شفافاً أبو حيان التوحيدي عندما تتبع حوارات المجانين الحقيقيين ورسائلهم وسجل لنا بدايات سوريالية رائعة، لأنه عانى حتى عدّه بعض المؤرخين مجنوناً. يقول أبو حيان في "الإمتاع والمؤانسة":" كتب مجنون رسالة الى زميله قال: كتبت اليك ودجلة تطغى وسفن الموصل ها هي، وما يزداد الصبيان الا شراً، ولا الحجارة الا كثرة فاياك والمَرَق، فإنه شر الطعام في الدنيا، ولا تبت الا وعند رأسك حجر أو حجران، فإن الأخبر يقول: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة.. وكتبت اليك لثلاث عشرة وأربعين ليلة خلت من عاشوراء سنة الكمأة".
اللهم عفوك وسترك.