بقلم: خالد عزام

أين أبدأ؟! من الشتات أم من الثبات!!

كلاهما همُّ بل هموم.. وأكثر وأحدّ.

دعوني أحدد أولاً الأبوات:

- أبو قيصر.. أطلال بعلبك- لبنان

- أبو محمد.. نهر البارد-  لبنان

- أبو حسين مخيم النيرب حلب- سوريا

- أبو علي مخيم الوحدات- الأردن

- أبو أحمد مخيم جنين- جنين فلسطين

1- أبو قيصر خرج من قريته، وأهل بلده أُخرجوا بعد صمود أسطوري.

أُخرجوا بتعهدات جيش الإنقاذ..

أبو قيصر يقول: أنا من بلدٍ متحابّة متعايشة من المسلمين والمسيحيين.. علاقات حبّ وتفاهم وتكامل.

أبو قيصر.. حدثنا وهو يحمل حفيداً من أحفاده.. هذه رسالة مني إليكم: مال الدنيا كله لا يساوي حبات تراب بلدكم.

تحابوا.. تحابوا.. تصافوا.. تصافوا.. تنتصروا

مات أبو قيصر.. وكان مطلبه لأبنائه وأحفاده أن ينقلوا ترابه إلى قريته.. طال الزمان أم قصر!!

يا أبا قيصر ننتظر جميعاً أن نوفيك حقك. فهل نتحاب ونتصافى ونكون الأوفياء.. أوفياء حتى العودة بكل دقائقها وتفصيلاتها.. لا بالقرارات بل بالإرادة والعند والتحدي.

أما- يا أبا قيصر- إن بقينا مشردين إلى رغبات ونزوات وارتباطات ومماحكات.. فكيف يمكن أن يكون الوفاء.. وتكون العودة.. الرحمة يا أبوات!!

2- من نهر البارد.. من هناك..  من حقول الفستق وتحميل وتنزيل الشاحنات في ميناء طرابلس.. لبنان.. ومن طلّة البداوي.. بينهما كان أبو محمد يعمل، ليصل بأولاده إلى مبتغاه في تعليمهم.. وتثقيفهم وارتباطهم بمدينة عكا..بلده.

كان دائماً يردد لأبنائه وبناته:

عكا عاصمة الدنيا

إياكم إياكم والنسيان

ومرت الأيام.. وكبر الأولاد وتزوجت الصبايا والشباب وكان الأحفاد عشرات.. عشرات.

من الأحفاد أصبح أحدهم مقاتلاً كان يردد دائماً:

لا بديل عن عكا

لا بديل عن جامع الجزار

وتمر الأيام.. يرقب أبو محمد الحفيد ويجد أنه صادق يحمل مع حبه صدقه.. ويهدأ العجوز على أمل أن يكون الأخ الحفيد قد تمثل القضية.

آلمه أن أصبح الحفيد أحد أعمدة فصيل يعمل وينفرد ويعيش بانتماء ضيّق.. وينسى أن "وحدة" القوم أمان من التيه.. ولكن يبقى كل فصيل هَمه، فصيله.

ووجد نفسه "بالفرقة" بفرقة في قرطاج.

سأل لمَ؟! لا جواب.. قبول.. وركون إلى الأمر الواقع.

تذكر وصية جدّه.. وعاد إلى موقعه وجلس.. وإذا ذبحة قلبية تلقيه على بساط أسود.. وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تذكر انه كان أبداً يبحث عن الموقع.. ولم يسأل أبداً عن موقف رحمة الله على أيام الموقف.. أهجروا مواقعكم وعودوا إلى الطريق التي سلكته دلال المغربي حفيدته.. طريق الموقف.

3- كان من رواد زيارة قلعت حلب منذ وصوله إلى المدينة عام 1949 في القلعة كان يحاول قراءة الرموز والإشارات علّه يجد منفذاً لفهم دلالاتها.. كل ما يتذكره أنها قلعة "سيف الدولة".

سيف.. دولة.. انتصارات.. قراءة رمزية للنصر العربي.

كانت القلعة والخيمة في "النيرب" المخيم كانتا كلتيهما في ذهنه علامة.. ماذا يعني؟ "ماذا يقصد" الخيمة.. الخيمة.. طريق يؤدي إلى العودة.. البيوت.. بجدرانها بسقوفها.. مداراتها.. كلها علامات ركون.. ونحن لا ركن لنا.. إلا ركن "أبو عبيدة بن الجراح" في ضواحي بيسان.. نعم هناك ركن فلسطين.. والخيمة لا تحمل سوى لحظة لتنتهي.. وتنتهي معها المعاناة.

ما لم تكن هناك إرادة لا يكون هناك حق.

"الإرادة تعطي الحق"

ما بك يا أبا حسين، لا شيء.. سأعمل وسأعمل وسأعود! ولكن بكل جهدي إلى اتجاه أن يتعلم.. كيف؟

عمل.. باع.. اشترى.. نام بعض ليله في أطراف المحلات تعرف على سهول.. حماة.. حمص.. بكل الجدّ والجهد.

صيفه في الحقول والمحلات التجارية.. وأيام المدرسة في العلم والأخذ والاجتهاد.. وبين نواعير حماة.. وقلعة حلب نجح "أبو حسين" ونال شهادة الثانوية العامة.. بنجاح أيّ نجاح.

هكذا أصبح مدرساً وتدرج من نجاح إلى نجاح.

حمل كلّ الورد وكلّ الحبّ إلى مجالات عمله.. وبقي يبحث جاهداً ليصل إلى طريق تأخذه إلى صفد.

كان يردد دائماً أنا مسؤول عن العودة إلى حارة صفد لأنَّ جدي أحمد هو الذي حرق حارة اليهود في صفد.

بدأت مواجهات النضال تتراءى أمامه.. قرأ الشعارات والملصقات والدراسات والأطروحات.. ما مطلبه؟.

هو ما تمناه.. وأراده.. لأنه قد يبدأ معه رحلة العودة إلى حارة صفد.

غاص في أعماق الصورة.. قارن كثيراً بين القول والعمل.. بين الكلمة والدلالة العملية.. سبر غور بعض أو كل الدعاة.

ما آلمه "ما صدم" أن المتباكين أصحاب الياقات والبدلات "الصفر" أولئك الذين تشكل الكوفيّة خارطة وطن، أولئك الذين يستخدمون أحلى السياسات ويسكنون أفخم الدارات.. وينتقل كثيرون منهم بين البارات يعايشون رغباتهم "راقصات فراقصات".

صدم "أبو حسين" من المتباكين على وطن ويحلمون بأسرع الانجازات وبكل ما هو هاتٍ هات.

وبين آماله وواقعه.. واقع الدعاة.. قرأ أنها مرحلة بناء الدولة.. وأخرى إلى انجازه.. وثالثة إلى صولجان ورابعة إلى كان يا ما كان!

خرج من خيمته حاملاً حزامه الناسف الذي أعطيه أثناء التدريب.. وانتقل من جبل إلى تلة.. إلى هضبة.. ومن هضبة إلى عمله حتى حطت رحلته "وسط صفد" وترك رسالة لأخوته ورفاقه:

إياكم والبحث عن الدولة.. ابحثوا عن الوطن.. عن أرض عمقها البحر. وبعدها النهر.. هناك دولتي نعم دولتي سألقاكم ومعي صحبي ممن هجروا رغباتهم إلى الأصالة تعالوا إلينا ننتظركم..

4- أبو علي.. أحد الأبوات الكبار نحن معه حيث يقول: أخذتنا القافلة ما بين التلال والوهاد. إلى أبسط فسحة شرقيّ النهر.. هناك سألني قائدي ماذا تريد يا أبا علي؟! وماذا تركت وراءك؟

ماذا أريد: أنا أقول لك بعد أن أحكي لك قصة رحلتي..

يا أخي.. من طفولتي وأنا أصطاد العصافير مع جدي على قضبان "الدبق" قال لي جدي.. نعم.. عصافير كثيرة ولكن إلى متى!

كان يحدثني وهو يشير بيده:

كان يمر لحظتئذ مقابل كرمه.. ثلة من اليهود المعتمرين قبعات ملونة.. يسيرون من زاوية إلى زاوية معهم خرائط ومعهم حقائب.. معهم كل شيء إلا ما يدلّ عليهم..

قال جدي.. يا بني هؤلاء هم المكر والخبث أنتظر كثيراً منهم.. انتظر.. وستتذكر أيام العصافير، وتتذكر جدك بما قال ووصف.. أولئك "الشقر" إنهم بداية لا نهاية لها.. وأنا أقول لك:

أقرب طرق إليك عمان.

إن كنت هناك تذكر وصية جدك.. إن هؤلاء "المكر والحقد" سيفقدونك "الكروم وصيد العصافير".

هكذا كان.. وصلت عمان.. عشت كما يعيش.. كل أبناء شعبي وسط خيام سوداء.. وعلى مداخلها "عصيّ وكرابيج" ودارت الدورة السوداء.. وتواعدت العصيّ والكرابيج مع صدري وظهري ويدي ورجلي وحطمت نوافذ الخيمة ومزقت شرايين الدار وعلت الأصوات من الجيران: "مسكين من دون فلسطين".

والأصوات العالية عادت وتلاقت

وتدافعت وتعاهدت... بعضها أصالة فيها

كل الدفء لوطن وبعضها شعارات

تكتب وتمحى في عتمة الزمان

وعلت أمواج من وراء الجبال.. موجة تتبع موجة بكل الألوان والأشكال وكل العبارات الدافئة وكل النضالات على صفحات أوراق بيضاء وصفراء وخضراء وحمراء وكلها تباشير "عودة" و"نصر".

يقول أبو علي سرت وفيلقا منهم وأخذت طريقي وعاهدت ربي "أن لا عودة إلى وراء" هكذا سارت الأيام كلها "أمانٍ" وذات يوم وبعد سنين وعلى كتف وادٍ نظرت يمنة ويسرى ودققت فلم أجد إلا بقايا موائدهم:

"موائد ملعونة وخبيثة".

موائد ما بقي منها يدل على أصلها:

"الأصل المشرع لكل الغوايات"

قال أبو علي أنا من الوحدات من الخيمة من الجوع من القسوة.. أنا أأقبل بهكذا سقطات:

ورفعت الصوت وانهالت عليّ السياط، ولم "أدرِ" أتلك عصيٌّ أم كرابيج لا "أدري" كانت كلمة واحدة: "أسكت.. تسلم".

لم أسلم لأنني لم أسكت..

وضعت في زنزانة محددة.. بعد كل أنواع "الضرب" فوق وتحت!!

سألت: لمَ يا "هيلمان"؟! قال: لأنك خالفت كلام السلطان..!!

صمتّ ولم أجب.. مضت أيام سوداء وليالٍ معتمة، وقلب يئن وحتى كان الصباح خرجت من بين الأسلاك بمعونة.. "النخوة".. خرجت.. آخذاً طريقي عبر النهر..!!

أخبروني أن الطريق عبر النهر مفخخ!! والدخول ضرب من الجنون.. كان لا بد من خطوة، وكانت بعد أن أرسلت رسالة لحفيدي قلت له فيها: أنا في طريقي إلى حيث استشهد والدك..

وأنت الآن سلمت الأمانة.. وتأكد أننا ننتظرك لتأتي إلينا تحمل علم وطنك.. لتغرسه فوق مواقع أقدام عمر بن الخطاب وصحبه في القدس الجديدة.

القدس العتيقة.. ستبقى كما غنتها "فيروز" أبد الدهرَ القدس العتيقة ستعود.. والجديدة.. نحن لا نحلم نحن نعلم أن فلسطين هي "دولة كل فلسطين بسهولها وجبالها بقممها وتلالها بشواطئها بحراً ونهراً..

هناك سنلقاك في متحف مكتوب على بوابته "متحف فلسطين".

المتحف يضم كل رفات شهداء هذه الأمة والشعب، بعد النصر.

5- أبو أحمد "اليافوي"

ما عساكم تسألوا: دخلت إلى مخيم جنين في أحشاء أمي وما عرفت بعد ولادتي.. وعندما كبرت إلا أن والدي سيعود إلينا وسيجد أبو أحمد أنّ زوجه قد أضافت إلى البنات الأربع ابنة أحمد هذا حلمه!! وتحقق الحلم وجاء أحمد..

الوالد أبو أحمد لم يعد وعاش أحمد في وسط خيمة "زحمة" في مخيم جنين.

كانت الابنة الكبرى فاطمة تتأمل كل يوم مداخل الخيم وأخاها أحمد.. ولا تتكلم.. وانتظرت وشبّ أحمد في عمر الورد بين أخوات وأم وكان أبداً يسأل متى يعود أبي!؟!

أجابته فاطمة: أحمد يا أخي نحن من مدينة يافا

أوصاني أبي أن أعلمك كيف تحمل البندقية وتحميها.

أنا يا أحمد مسؤولة عن عهد ووعد.

يا أخي أنا حملت البندقية.. قاتلت دافعت ودخلت غياهب السجون.. وها أنا أعود إليك لتتعلم "حمل" البندقية.. البندقية التي تعرف طريقها وتعلم مداها.. وتتأكد من خطاها.

بندقية عليها علم فلسطين.. وفي مسكاتها أصالة التاريخ، بندقية لا تعلم ولا تفهم إلا لغة واحدة.

"إن فلسطين ليست حكماً لفرد ولا لجماعة ولا سيفاً لحاكم ولا أسلوباً لاعتلاء عرش".

فلسطين خارطة مخطوطة بدماء الشهداء.

ومرسومة بعيون الآباء والأمهات.. ومحفورة في ذهن كل الأجيال.

إن حاول جيل أن يتباهى "بموقع" فإنّ الأجيال ستبقى تبحث عن "موقف".

قررت ذلك.. وسأبقى أقول حتى:

تلتقي يافا مع صفد

وجنين مع عكا

والكابري مع القدس كل القدس..

هكذا تكون وصية أبي أحمد تتحقق

بكل الحب وكل النصر.