صفقة القرن تمّ تطبيقها على الأرض وانتهى، وما بقي سوى التفاصيل الختامية، والشكلية التي تمثّل التشطيبات النهائية للمبنى. أسُس صفقة القرن أصبحت واضحة لكل ذي عين وبصيرة، فعندما يتمُّ إسقاط ملفات القدس، واللاجئين، والسيادة، وفكرة الاستقلال لدولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والتاريخي والقانوني، فإنّ الباقي ليس سوى تفاصيل.

باقي التفاصيل هي تمامًا كما التشطيبات التي يحتاجها المبنى ليبدو جميلاً أو مُستساغًا، وهذا ما يتمُّ العمل بشأنه في مصانع الفكر الاستعماري الغربي اليميني بزعامة الرئيس الأمريكي المتصهين وجوقته التي تعيش في أوهام نهاية الزمان وعودة المسيح المخلص.

وهي ذات الجوقة التي تحاط بالصفقات والنزق والشُبهات التي تخرجها من ربقة السياسيين إلى زمرة المتآمرين التاريخيين منذ إعلان بلفور، ليس على فلسطين فقط وإنّما على الأمة ككل، وهي الأمة التي ما زالوا ينظرون لها من منظور التفوق الأبيض البغيض، وبمنظور العداء التاريخي المرتبط بفكرة صدام الحضارات الساقطة لهنتنغتون وفوكوياما.

صفقة القرن تمَّ إنجازها من حيث صدور القرارات الأمريكية الأكثر صهينة من القرارات الإسرائيلية ذاتها، وهي ما كانت لتكون بهذه الصفاقة والجرأة والخروج إلّا لأسباب ثلاثة واضحة.

أولاها هو انحسار العمق الرسمي العربي من حول القضية الفلسطينية إلى الدرجة التي أصبح فيها التطبيع المعكوس للمبادرة العربية جزء من الحياة العربية عند الدول العربية الرسمية، وإلى الدرجة التي سقطت فيها أولوية احتلال فلسطين كخطر يُهدِّد الأمن القومي العربي! في ظل الطغيان الإيراني الذي يجتاح المنطقة ليس لمصلحة فلسطين أبدًا بقدر ما هو لتحقيق الأحلام الإمبراطورية، التي لا نقيم لها وزنًا كفلسطينيين مقابل ضرورة الكف عن كل ذلك والعودة لاعتناق فلسطين كمبدأ وليس الهيمنة الإمبراطورية الإيرانية أو التركية العثمانية.

صفقة القرن تَّم إنجازها بدعم عربي مباشر، فالصمت والتغافل وتكتيف الأيدي مشاركة عملية، وليس فقط إعلان التأييد المباشر.

أصبح الركون للدعم العربي سندًا من أسانيد انطلاق شكل الصفعة -كما أسماها الرئيس أبو مازن- النهائي، فالاختبارات الميدانية التي عقدتها الإدارة الأمريكية للأنظمة العربية أتت أُكُلها، ونجحت الأنظمة بامتياز! بردود فعلها الباهتة المطلوبة.

لم تفعل دولنا العربية والإسلامية أكثر من إصدار البيانات الخجولة والضعيفة والتي لم ترقَ لما قامت به دولة جنوب إفريقيا من تخفيض التمثيل الإسرائيلي! ولم ترقَ لما قامت به إيرلندا من مقاطعة للمنتجات الصهيونية! ولم ترقَ لما عبّرت عنه شعوب العالم الحر من تضامن واسع مع فلسطين وضد الغزو الاقتصادي والاستعماري الإسرائيلي للعالم.

بل على العكس من ذلك وجدنا من وزراء العرب مَن يتباكى بحرقة على "الإسرائيليين" المساكين! وكأنّه يحيي مراسم احتفالية على حائط أقصانا حائط البرق المسمّى "حائط المبكى".

نُحَيي القلّة من دولنا العربية وشعوبها الأبية التي صحت من غفوتها وغفلتها، ورفضت التمدُّد الصهيوني، بل وبدأت تربط علاقات متوازنة مع روسيا والصين الصاعدتين كقوى عالمية ستُسقط الهيمنة الأمريكية الأحادية، والأمور دول.

إنَّ السبب الثاني الذي شكَّل عامل القوة بيد الإدارة الأمريكية هو صراحتها العنصرية الجارحة، وفجاجة طروحاتها المرتبطة بهيمنة القوة الباغية التي لم تُقابَل من معظم شعوب عالمنا العربي وتنظيماته وفصائله الإسلاموية أو الديمقراطية إلّا بالضحك أو الإهمال أو التغاضي أو بتعابير الإعجاب من عدمه على وسائل التواصل الاجتماعي! فلا ثورة عربية قامت من أجل القدس ولا مسيرة سُيّرت دعمًا للاجئين، أو انتصارا للأمن القومي العربي ورحم الله جمال عبدالناصر.

أمَّا السبب الثالث في سلاسة الطرح النهائي القادم لصفقة القرن فيكمن في محاولة تأبيد الانقلاب والنزاع الفلسطيني المسمّى انقسامًا، بإغراءات التنسيق الأمني والتهدئة والأموال المسمومة القادمة بالحقائب، وهو الانقسام الذي ارتبط بانقلاب دموي في قطاع غزة، لحقه تفوق فكر الإقصاء والتفرُّد والهيمنة واقتسام الأرض المحتلة في الضفة وغزة، بدعم أمريكي-إسرائيلي التقى مع عقلية سلطوية استبدادية تلقى دعمًا من "إخوانيي" العالم المتشدّدين الذين لا يرون أبعد من أنوفهم.

سيادة فكرة البديل ضمن عقلية المعسكرين، وسيادة الأفكار الخرافية عبر التمسُّك بقطعة أرض محتلة (قطاع غزة) إلى أن تقام دولة المؤمنين الحصريَين الموهومة آخر الزمان تلتقي مع تلك الفكرة الدينية الاستعمارية الغربية والصهيونية للرئيس الأمريكي واليمين الإسرائيلي، وهي فكرة انتظارية واهمة إذ سيتفوق فيها القوي غير المؤمن، وليس المؤمن الضعيف.

إنَّ الوهم الفلسطيني الذي يظنُّ أنَّ القاطرة الفلسطينية تستطيع أن تسير بقضبان الحديد اليسرى وحدها أو اليمنى وحدها واهم، فلا بد لكليهما لتستطيع القاطرة الفلسطينية أن تسير وضمن القاطرة العربية التي لا غنى عنها مطلقًا.