عاطف أبوسيف المولود في مخيَم اللاجئين بجباليا في قطاع غزّة، هو ابن مدينة يافا التي أطلق الصهاينة الرصاص على ظهرها، واعتلوا تلّتها حين تحالف الاستعمار الغربي المريض ببغضه مع الصهيونية العنصرية الإرهابية، فأنشأوا بعيدًا عنهم، ككفّارة عن مذابحهم وحقدهم اللامحدود على يهود أوروبا لقرون، أنشأوا "غيتو" أهدوه لهم في فلسطين.

عاطف ومدينة صلاح خلف

من هذه المدينة الشامخة مدينة يافا التي احتوتها تل أبيب لاحقًا، فأقيمت على جثث 20 قرية فلسطينية كان منها قرية الشيخ مونّس، التي مُحيَت كغيرها ولتنتفخ تل أبيب، من هذه المدينة كانت الشرارة لثورة وأدب عاطف.

من هذه المدينة التي أنتجت أحد أكبر أبطال العالم العربي وفلسطين صلاح خلف "أبو إياد" ضمير الثورة وصوتها الصادح انطلقت عائلة عاطف لتعيد مع كل المجاهدين تركيب معادلة النصر من خلال وضع فلسطين ويافا في صدر قلوبهم وبيوتهم، كما في روايته الجميلة "زمن درويش اليافاوي".

(وأظنُّ أنَّني كنتُ في طفولتي بمقدرة هؤلاء على سرد القصص والحكايات عن طفولتهم على شواطئ البحر في يافا وفي حقول القمح وبيارات البرتقال، ثُمّ تختفي البسمة لتُسح الدموع على الخدود وهم يروون هول الكارثة والفاجعة وهم يسيرون خارج بيوتهم بحثًا عن مأمن) كما يقول عاطف عن شعبه الأبيّ.

نشأ عاطف بين أبناء يافا وعائلة أبوسيف التي ضمَّت المناضل العسكري والسياسي، وكان منهم كما هو شأن شعبنا العربي الفلسطيني المزارع والتاجر والأمير والفقير، وكان منهم المثقَّف والروائي، وهنا لا يمكن إلّا أن نضع عاطف في قلب الثقافة وفي مسطح قمر الرواية في فلسطين.

إنّه عاطف أبوسيف الذي قال: (أنا الذي بدلاً من أن أولد في (يافا) المدينة الأجمل، وُلِدتُ في مخيّم للاجئين. وبدلاً من العيش والعالم يقف خلف الموجة التي تضرب عتبة بيتنا هناك، عشت في مخيّم محاصر مغلَق المنافذ، والناس هناك إلى جانب حنينهم الأبدي لموطن صباهم وأحلامهم، وإلى جانب نضالهم التحرري، هم أيضًا بشر يحبون ويكرهون ويغارون، وفيهم من يبحث عن حلمه وخلاصه، وعليه فإنَّ العالم والحلم الفلسطيني مليئان بالحياة والتفاصيل).

عاطف أبوسيف الذي تداولت جسده الطاهر عصيّ الفتنة في غزة، وهراوات شرذمة الإرهابيين الحاقدين أتباع عبدالله بن أبيّ بن سلول، أولئك الذين خانوا الله والرسول فكانوا باللسان والسيف ضده، وكادوا يقتلونه ورجاله وما أفلحوا بالأمس، ولن يفلحوا اليوم، هو عاطف المحبُّ للحياة بتفاصيلها التي ترعب الظلاميين.

عاطف وأبناء جيله في غزة انتفضوا على مقرّر الخنوع والخضوع الذي سقته عصابات الإرهاب الصهيونية للفلسطينيين ظانّةً أنَّهم سيخنعون، وهو وأبناء جيله الذين كسروا سوط الاحتلال في غزة وفي الضفة وكل فلسطين، وليس هذا الفصيل الكاذب أو ذاك مبتلع الفتنة ومصدرها.

عاطف والراسبي

عاطف أبوسيف الذي تعرَّض لتكسير عظامه الرقيقة الممتلئة بحب وطنه، وهو يحتضن ترابها لم يكن شاذّا فيما تعرَّض له، فلقد تعرَّض لمثله مئات بل والآلاف عبر السنين من المحتجين من أبناء غزة الأشاوس، في سياقات سابقة، وفي حملة (بدنا نعيش) صارخين مع طرفة بن العبد ضد ظلم ذوي القربي (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند) من أجل معيشتهم البائسة في ظل مليشيات أدمنت امتهان كرامة الناس، وفي ظل حكومة انقلبت على الدين والمجتمع والوطن وما زالت مصرّة على غيّها.

في غزة اليوم لا تكاد تعرف نفسك أأنتَ في حرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، أم أنت في غزة بين مدَّعي الحق الأكمل والنور الأجلّ ضد الكفار؟ أم أنت في ساحة مسلخ بشري حيث طالت عصي وهراوات البغاة الخوارج كل رجل أو طفل أو امرأة بلا تمييز؟ ينتهكون حرمة البيوت والنساء بلا وازع ولا نخوة، وهل كان عمر بن الخطاب ليعتلي سور الفحش فيُثاب أم كان له من علي بن أبي طالب اللوم والتقريع.

الفتنة الكبرى في تاريخ الأمة، ومثيلتها اليوم في غزة، أي الصغرى، هل لها أن تميّز بين الكبير والصغير؟ وهل كان من المأمول بالوحوش البشرية التي علّقت ضميرها في حِبال الريح وباعت نفسها للشيطان أن ترعوي؟

الطغاة البغاة الظلمة الذين اعتذر عنهم خالد مشعل وحيدًا طريدًا شريدًا هي تلك الفئة التي قتلت في انقلاب عام 2007 اكثر من 700 مواطن، فهل كان من المنتظر منها أقل من ذلك؟ وهي تصرخ مبحوحة بصوت الرحمن، والله منهم ومن هراواتهم ومن رصاصاتهم وإرهابهم بريء؟

الطغاة البغاة على شعوبهم، في أي مكان، يركبون قطار الدين كاذبين، ويركبون قطار المقاومة كاذبين، ويركبون قطار الإصلاح كاذبين حين يلتفون حول عنق شعبهم كالأفعى الرقطاء، وحين يحمون الحدود فلا تنطلق رصاصة واحدة ضد العدو البعيد، وتبدأ حفلة أحفاد الحروري الانقلابي عبدالله بن وهب الراسبي البائسة فيكسرون الأرجل على الملأ، كأنَّهم يقيمون حدود الله -حاشا لله، وهم يعلنون بالحقيقة خروجهم عن قيم الدين السمح ومعتقداته، وعن العرف، بل وينزعون جلد الإنسانية عن أجسادهم المتخمة بالضغائن والأحقاد وأوهام القداسة زمرًا، كما يدخلون النار زُمرًا.

هو ورواية غزّة

في قصة د.عاطف أبوسيف نكتشف سبب تكسير رأسه وعظامه من قبل البُغاة، ففي قصته "حياة معلّقة" يقول عاطف أبوسيف: (ثمّة نهارات سعيدة تحدث فجأة، وثمّة أوقات لا تشعر فيها بالزمن ولا بوقع دقات الساعة. هذه كانت من اللحظات القليلة التي أدرك فيها سليم بأنها ستكون ذات أثر في حياته. لن تكون مجرد لحظة عابرة. فيما كان يسير في شارع الجلاء من عند مفرق السرايا باتجاه الشمال، كان سليم يقول لنفسه إنَّ يافا تتحدث عن نفسها وهي تشير إلى الواقع والخيال، تبدو فتاة طموحة ولكنها تخاف من طموحها، وكثيرًا ما حاولت تبرير ذلك خلال حديثها عن أنَّ الطموح أمر ضروري، ولكنها في جملة تالية ستتحدث عن قسوة الواقع، وإذا كان لكل إنسان طموح ما، وإذا كان كل إنسان بالضرورة يعيش في واقع ما، فإنَّ مدى نجاح المرء في تحقيق طموحه منوط بمستوى علاقته بالواقع).

في قصة عاطف أبو سيف كما رواياته الأخرى يتعملق حُبّ الوطن مربوطًا بغزة الحياة والواقع لا غزة الموت، وهو الوجه الآخر غير المعروف لهذه المدينة الجميلة، ولهذا القطاع المنكوب من أعدائه، ومن البغاة في صلبه الذين يأبون إلا تجريد الروح من الأجساد ونهب الحياة من عيون الأطفال.

للبطولة في رواية «أحلام معلقة» للأديب الصديق الأخ عاطف أبو سيف معانٍ مختلفة عما نردّده كفلسطينيين كشعارات في المسيرات (عن الهتافات الشهيرة «نموت وتحيا فلسطين»، وكأنّ لسان حاله يقول «نعيش وتحيا فلسطين»، أو «يجب أن نعيش لتحيا فلسطين»)، ألهذا يقوم الطغاة البُغاة بمحاولة إسكات صوت الحق والحياة والأمل؟ أم لأنهم إلى ما سبق قد أدمنوا الظلام وأقبية الموت وادعاءات الصواب المطلق.

يقول عاطف أبوسيف: (قلت في روايتي "حصرم الجنة" إنَّ كل أصدقائي يحلمون باللحظة التي ستخفق فيها أجنحتهم فوق بحر غزة، يعبرون إلى العالم المشتهى المرغوب، فالبحر -الذي هو رئة غزة الوحيدة- ليس سوى لوحة جميلة معلقة على جدار الزنزانة المسماة غزة، فأنتَ تجلس على البحر تستمتع بمنظره كما تستمتع بلوحة جميلة، تعرف أنّك لا تستطيع أن تعبرها إلى الفضاء الخارجي).

إن لم يكن الاعتداء الوحشي والآثم على عاطف أبوسيف قد جاء في "أحلام معلّقة" فإنّه حتمًا قد جاء في "حصرم الجنة"! ولربما في "الحاجة كريستينا"!

في لقاءٍ له مع "الجزيرة" يقول د.عاطف أبوسيف: (غزة مدينة حيوية ونشطة، وبها حركة أدبية لا تلقى الكثير من الاهتمام من النقاد خصوصًا في الشعر. وفيها أنشطة واسعة وشبّان وشابّات يدفعون من مصروفهم اليومي من أجل إقامة فعاليات أدبية، وبعضم طلبة جامعة يصرفون قوت يومهم من أجل أن يلقوا أشعارهم ويسردوا قصصهم في تجمعات وندوات.

غزة لا تنتج المعجنات الساخنة من الأخبار الدسمة والعاجلة وصور القتل والدمار والموت، بل إنّها أيضًا مدينة فيها العاشق والمجتهد، كما فيها السمسار وتاجر الأنفاق والحاقد والكاره ومحب الخير وصبي المقهى وإلى ذلك).

وهؤلاء السماسرة وتجار الأنفاق والكارهين هم حتما الذين انهالوا على عظامه تكسيرا، فلقد هالهم وأزعجهم هذا الأديب والمثقّف حين رأوه ينضم لركب الحياة لا لأقبية الموت، لركب المستقبل لا الماضي الحقود، لركب الأحلام لا الأوهام والخيالات المريضة والأحقاد المسمومة.

لا أعتقدُ أن البُغاة الطغاة أو الوحوش البشرية التي انهالت على جسد عاطف بالضرب قد قرأت حرفًا واحدًا من رواياته، ولِمَ تفعل ذلك ورأسها قد امتلأ بالسواد الذين لا يستطيع معه أن يتشرّب ولو كوبًا من الحليب الأبيض؟

الوحوش الآدمية التي تحدت نفسها وأوامر مشغليها من وراء الزجاج، قد انهالت على جسد غزة المنهك سنوات طوال بقسوة الظلم والهراوة والإتاوات والضرائب وقسوة الكذب باسم الدين والكذب باسم المقاومة، إلّا من رحم ربي واعتصم من الفتنة بجبل.

هُم ما كان ليقرأوا سطرًا واحدًا من أي من كتبه، وهل فعل ذلك من حاول اغتيال نجيب محفوظ حين برّر قتله برواية (أولاد حارتنا) التي لم يقرأ فيها سطرًا واحدًا!

يقول عاطف أبوسيف: (نجد في غزة البطل والمناضل الشرس الذي ما زال يؤمن بأنَّ فلسطين ممكنة. وفيها أيضا فتاة تحلم بأن تصبح ملكة جمال الكون، وفتى يحلم باللعب في برشلونة، وآخر يظنُّ أنّه أوسمُ من براد بت وغير ذلك. وفيها أيضًا أدب رفيع يكتب مثلما تكتب الآداب الجميلة. هذه غزة بعيدًا عن الصورة النمطية فهي التي تعج بالحياة وممكنها).