الثائرون في شوارع قطاع غزة رفعوا شعار "بدنا نعيش" ما يوحي أن الجمهور الفلسطيني الذي تتحكَّم بمصيره سلطة الانقلاب والانفصال الحمساوية كان بين خيارين؛ إمّا الموت بقذائف طيران ومدفعية جيش الاحتلال ورصاص قناصته، أو الموت قهرًا وجوعًا وحزنًا خوفًا من إرهاب جماعة الإخوان المسلمين فرع فلسطين المسمى (حماس) ومن شد حبل القرارات التعسفية والضرائب الذي تشده "حماس" بين الحين والآخر على رقابهم، هذا فوق الحبل الخانق أصلاً لآرائهم وحريتهم في التعبير عنها، ما حال بينهم وبين الأمل، فهبوا، وانتفضوا وثاروا على موت قسري ورفضوه بصرخة "بدنا نعيش"، ونزلوا إلى الشارع بعد كسرهم حاجز الرعب المادي والنفسي الذي راكمته "حماس" في نفوسهم، فحماس استطاعت ردع جماهير القطاع منذ انقلابها الدموي عبر صور القتل الهمجية التي تقصدت بثها عبر وسائلها الإعلامية، وما مشهد سحل وجر جسد القيادي في كتائب شهداء الأقصى سميح المدهون وهو حي بعد إطلاق النار عليه من مسافة قريبة وتعرية الجزء العلوي من جسده حيث برزت بوضوح آثار الطعنات بالسلاح الأبيض والجروح الطويلة والعميقة فيما الرجل يحاول جاهدًا تسليم روحه بصبر وثبات للخلاص من نهش ذئاب بشرية كانوا لا يتورّعون عن الصراخ " الله أكبر" إلّا دليل واحد من ألف دليل في هذا السياق.

الثائرون في شوارع قطاع غزة -حسب تقديرنا وتقييمنا- قد نفضوا الغبار عن وعيهم الوطني بعد وصولهم لقناعة ثابتة أنّ "حماس" قد خدعتهم واتخذت معاناتهم ومستقبلهم ومصائرهم كسلعة تجارية، وأنّ شعاراتها المشتقة من مصطلحات دينية كانت بمثابة دخان للتعمية على أهدافها الحقيقية، فهؤلاء الذين كانوا أطفالاً عند انقلاب "حماس" قبل اثني عشر عامًا، أصبحوا اليوم على قدر عال من الرؤية، والإحساس بالمسؤولية الوطنية، فأدركوا أن كل ما فعلته "حماس" كان عملية تدمير ممنهَج لآمالهم في الحرية، وقيمهم وطموحاتهم في حرية واستقلال وغد افضل ومستقبل حر ديمقراطي.

الثائرون السائرون اليوم في مدن وقرى وبلدات قطاع غزة يريدون إبلاغ "حماس" رسالة على ورق مصنوع شعبيًّا من دون ترويسات حزبية أو فصائلية نصّها: "لقد فشلتم في الحكم وفي المقاومة أيضا"، والبرهان الأحدث أنَّكم حاولتم استدراج العدوان الإسرائيلي علينا عندما كنا في الشارع نطالب بالكرامة قبل رغيف الخبز ورفع بلاء ضرائبكم وويلات ومصائب قمعكم وجبروتكم واستبدادكم.. لقد واجهتمونا برصاص أطلقتموه من بنادق قُلتم إنّها للمقاومة، فإذا بكم توجهونها نحو صدورنا وتكسرون بهراواتكم ضلوع إخوتنا وأخواتنا وأُمهاتنا وأحبّتنا".

المواطنون الفلسطينيون الثائرون في قطاع غزة أعادوا لوعيهم الوطني إشعاعه الطبيعي، وأثبتوا للقاصي والداني أنّ زمن خداع ودجل مشايخ وأمراء "حماس" قد ولّى، وان الاضطهاد والقمع لن يمنعهم من تلمس الفشل الذريع لمشروع فرع الإخوان المسلمين "حماس" في الحكم، بعد فرصتين الأولى كانت في إطار حكومة شكّلوها بتكليف رسمي بعد فوزهم بالانتخابات لم تدم إلّا عامًا ونيف، والأخرى بعد انقلابهم المسلَّح الدموي وسيطرتهم على مفاصل الحياة الإدارية والمالية في قطاع غزة ومحاولتهم تسويق مقولة "نموذج الدولة الإسلامية".

الثائرون في قطاع غزة لم ينتظروا طويلاً للرد على اعترافات رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو التي أقرَّ فيها أنَّ سماح حكومته بتحويل الأموال إلى "حماس" عبر أجهزة حكومته الأمنية كان لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة بما فيها القدس وغزة، فثار الشباب ليس على "حماس" التي يستلم قادتها الأموال لمنع قيام "دولة فلسطينية" وحسب، بل لإدراكهم أنَّ "حماس" تقف حائلاً بينهم وبين طموحاتهم في التحرّر والاستقلال وبناء الدولة التي يريدونها نموذجا للدولة الوطنية الديمقراطية التقدمية، دولة القانون والعدل والمساواة، دولة الإخاء والمحبّة والسلام بين كل مواطنيها.

ردَّ الشباب الثائرون في قطاع غزة لأنّهم يرفضون تسجيل نقطة سوداء في صفحة كتابهم الوطني، فانتفضوا ثأرا لشرفهم الوطني الذي أهانته "حماس"، فجماهير الشعب الفلسطيني في غزة ترفض أن يكتب عنها في سجلات التاريخ أنّها صمتت عما قاله نتنياهو الذي أسقط بتصريحاته مشايخ وأمراء "حماس" بمستنقع فضيحة الخيانة والتآمر معه على المشروع الوطني الفلسطيني، خاصة أنّ "حماس" روّجت لاسمها وواقعها في غزة مرتبطًا بمليوني فلسطيني في قطاع غزة، فيما الحقيقة أنّ مشايخها أمراء الحرب والمتكسبين من استخدام الدين والتجارة به وبدماء الغزيين هم الذين انعقدت ألسنتهم ولاذوا بالصمت من هول أحدث انكشاف لمؤامراتهم مع المحتلين الإسرائيليين وقوى إقليمية على المشروع الوطني لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة وتساوقهم مع صفقة القرن التي ابتدأها الرئيس الاميركي دونالد ترامب بإسقاط القدس وقضية اللاجئين من اي مشروع لحل سياسي للقضية وزاد عليها تأييده للاستيطان ورفع صفة المحتلة عن الأراضي المحتلة في حرب الخامس من حزيران من عام 1967.

صرخة المواطنين الثائرين في غزة "بدنا نعيش" ونزيدهم عليها "إحنا ما بنموت"، تلخص واقعهم الذي دفعهم للانتفاضة على دكتاتورية وإرهاب المستبدين الإخوان المسلمين فرع فلسطين "حماس" وتلخص رؤيتهم الوطنية وتبرز لمعان وعيهم الوطني.

نعتقد أن المواطنين وعلى رأسهم سيدات وأُمهات رأيناهن وسمعناهن عبر فيديوهات مصوَّرة من مراكز ميادين المواجهات مع عسكر "حماس"، قد قالوا كلمتهم مكثّفة مركّزة ولا يحتاجون لمساحات زمانية ولا مكانية كمسارح للتنظير في قنوات تلفزيونية فضائية فقأت عيون كاميراتها ومنعت العالم من رؤية ضلوعهم المكسورة ورؤوسهم النازفة وفرضت حصارًا إعلاميًّا بالتوازي مع حصار عسكر "حماس" لبيوتهم قبل مداهمتها والانطلاق بحفلة (مناسكهم الإخوانية) التي أقلّها تكسير سواعد وأرجل ورؤوس وأضلاع كل مَن ينادي "بدنا نعيش".