يعمد بعض الناس لتغيير الموضوع، أو الانزياح عن موضوع النقاش بقصد وتعمُّد، فإنَّ كان الحديث في الهندسة يحوّلونه إلى السمكرة، وإن كان في أزمة الطاقة يتحوَّل لمشكلة فرن الغاز في بيته.

وإن كان الحوار عِلميًّا أو دينيًّا يسيّسونه.. فهذا أسهل فالسياسة ملعب العالمين والجهلة معًا، وعندما يكون الحديث في مناهج العقل أو طرق التفكير يحوّرون الحديث نحو التقرير أو النقد أو السخرية علاوةً عن الشتم أو إعطاء التوجيهات والأوامر للحضور.

تغيير موضوع النقاش في ندوة أو جلسة أو لقاء جاد دلالة على فراغ المتحدِّث أو تذاكيه أو عدم إلمامه بالموضوع، أو استسخافه للآخرين وتكبّره كما أسرَّ لي زميلي فؤاد.

فبدلاً من أن يسأل الشخص ويستفسر ليفهم ما لم يفهمه، أو ما يأنف عن فهمه، أو يفترض عدم أهمية فهمه، فإنّه يحوّل أو يزيح الموضوع باتجاه مختلف، باتجاهه هو، أي باتجاه ما يفقهه.

إنَّ من مميّزات المتحاورين الجادين -كما قال لي صديقي فؤاد وهو يرتشف فنجانًا من القهوة الحلوة-هو: عدم التذاكي أو الادّعاء أو التفتيش عن السقطات، وإنّما محاولة إفساح المجال أمام العقل ليستوعب المختلِف-أكان يوافقه أم يرفضه-ليحاول فهمه من حيث هو فكرة، ومن حيث غايات الفكرة وتأثيراتها.

وافقتهُ على ما قال، فكلامه عين الصواب، وأردفت: بل ومن واجب المتحاور أن يُظهر الغِبطة أو الشكر للمتحدّث، وإن اختلف معه، فكيف بمَن لا يستغني عن النقد العابث الذي يخلط الرأي بالموضوع أو بالموقف بذات الشخص؟

استرسل فؤاد وهو يبتسم مُلمّحًا لحادثة وقعت معنا، فقال: "حين يعمد المتحدث لإزاحة الحديث إلى مربّع ليس ذا صلة بالنقاش فهو إلى ما سبق وقلناه إمّا يتهرّب، أو يحاول إظهار عضلاته الكلامية في المجال الذي يتقنه، أو لمجرد الظهور أمام الآخرين، أو حتى أمام نفسه! فهو لا يستطيع أن يجلس صامتًا والناس تُلقي بدلائها.

من هنا كان حوارنا الثنائي اللطيف هذا في المقهى الشعبي في الطابق الثاني لاحقًا للحدث المغيظ، بل والمقيت الذي وقع معنا.

كنّا في جلسة منذ أيام حضرها حشد من المثقّفين والكُتّاب والصحفيين فاق الأربعين شخصًا، وكانت فكرة أو عنوان الندوة المعدّة مُسبقًا هي: تطوير الأداء الشعبي في مجابهة الاحتلال الصهيوني.

تكلَّم المتحدِّث الرئيس في ١٥ دقيقة وبصلب الموضوع، ملتزمًا بالمضمون والمدّة، فتحدّث في الأهداف المحدّدة للتطوير في الأداء النضالي، زمانيًّا ومكانيًّا وبرامجيًّا، وعرج على مدى ملاءمة الظرف طارحًا احتمالات "سيناريوهات" وبدائل للمواجهة مرجّحًا إحداها.

صفَّق له الحاضرون، ودار النقاش من ثلث الحضور تقريبًا، والباقي كان يستمع باهتمام إلّا من أحدهم.

رفع صاحبنا يده للمداخلة التي حُدّدت للجميع بـ٥ دقائق لكل متدخّل، فتحدّث ويا ليته ما فعل! لكن هيهات، لقد تحدث كمسجّل لا يمل التكرار لمقاطع أغنية قديمة طويلة محددة، بل وكان يتكلّم بأسلوب يشي بعجرفة واضحة وتبرُّم وضيق، بل وقرف بادٍ!

حرَف صاحبنا موضوع النقاش المحدّد إلى الوضع السياسي العالمي فالإقليمي فالوطني، بطريقة العلك، دون أي صلة أو رابط بموضوع الحديث، والأدهى والأَمَر أنَّه ادّعى أنَّ المتحدث لا يمتلك القدرة أو المعلومات! بمعنى أنّه هو وحده مَن يمتلكها! وبمعنى أنّ المتحدث الرئيس بالندوة لا يفهم، رغم أنّنا نحن الحضور الذين لم نفهم ما يقوله صاحبنا المتذاكي!

لا يفوتنا القول إنّ حديث أخينا المتذاكي هذا قد دام أكثر من 38 دقيقة بالتمام، نعم، دون توقّف أو انقطاع! ممّا أثار الملل والضيق والحنق، والاعتراض ما لم يلتفت له.. حتى بدأ المجلس يخلو من الحضور، شيئًا فشيئًا من دون أي بادرة وعي من صاحبنا!

حاول مدير الجلسة بلطف تنبيهه لأكثر من ٥ مرات لتجاوزه وقته ووقت الندوة ككل، وانزياحه عن الموضوع، فلم يُبالِ صاحبنا المتعالي!

بل ومعتبرًا أنَّ ما يقوله هو كلام مهم، بل وأهم من كلام المتحدّث الرئيس، وجميع المتدخلين، ويجب على الجميع الاستماع له!

اشتدَّ الأمر مع المتذاكي، وانفتحت قريحته.. فالكلام عنده يجرُّ كلامًا، حتى دقَّ بيده على الطاولة!

فانسكب فنجان القهوة بقربه.. ولم يأبَه له، واستمر مؤكِّدًا دور روسيا في سوريا والعراق، وأهمية الأسطول الروسي في البحر الأسود، وأنَّ الخوف القادم على العالم من بوركينا فاسو والدول أمثالها في أفريقيا!

لم يبقَ في القاعة، حين تناول دور "بوركينا فاسو" وهو يقترب كما ظننتُ من ختام حديثه، إلّا أربعة فقط!

كان منهم مدير الندوة الذي كان يقلِّب عينيه بين السماء والطارق، والمتكلّم المتذاكي ذاته، وأنا، وشخص آخر لا أعرفه، بينما كان المتحدّث الرئيس قد لملم أوراقه من زمن طويل واستأذن لارتباط سابق وخرج.

كنتُ -لسوء حظي-واحدًا من الأربعة الباقين المغلوب على أمرهم، ابتسم حينًا، وأنظر للباب حينًا آخر، أرجو من الله الفرج، فلقد تأخَّر صديقي فؤاد الذي خرج لقضاء حاجة لنا.

كان فؤاد قد خرج أثناء حديث صاحبنا الصاخب، لأنّه يعرفه ويعرف أنه حين يتحدّث لا يقول شيئًا، ولا يتوقف لأنه يسير كشاحنة على منحدر ..... وكنتُ بانتظار فؤاد وأنا مملوء بالضجر والملل، لنطير بعيدًا عن هوس صاحبنا. الذي كان يوصّف الحصان بصفات الجمل.

ما أن أطلَّ صديقي فؤاد من الباب الموارب، وجال ببصره ناظرًا في القاعة، حتى غطّى فمه بيده، فلقد كاد يطلق قهقهة عالية، فالمنظر مضحك ومبكٍ... وأشار لي أن أقدِم بسرعة...

قمتُ أنا هاربًا مُسرعًا إلى الباب في غفلة من عين صاحبنا المتذاكي الذي كان ينظر بحدة لمدير الجلسة-ذاك الذي يكاد ينفجر- ويصيح مكملاً ما يظنّه تحليله السياسي الخطير، وكلامه المهم جدًّا في القاعة الخالية!

حينها رمقني مدير الندوة بنظرة صاعقة من تحت نظارته.... كغريق يسعى لطوق النجاة!