في نفس اليوم الذي يُلقي فيه الرئيس محمود عبّاس خطابَ التحدّي المتكرِّر للإدارة الصهيونية، ومن خلفها الإدارة الأمريكية، تعقد "حماس" اجتماعًا أو حفلاً شتائميًّا في غزّة يتضمَّن الكثيرَ من الغياب عن الوعي، وحرفًا للحقائق، وإهدارًا لقِيَم السياسة الواقعية بل وقِيَم الأُخوّة الجامعة، وبما يمثِّله ذلك من ابتعادٍ عن فهمِ متغيّرات الوطن والإقليم بل والعالم، ما يعني عدم قدرتها على مدِّ اليد والمصافحة والتكتل والتوحُّد، وتقليل الفجوات لا توسيعها.

تضمَّن حفل الكوميديا السوداء في غزّة مجموعةً من الاتهامات المعيبة والمقذعة والمكرورة من 12 عامًا في آن، حيث تأتي هذه الطعونات والاتهامات وكأنَّها لطميّات لا تكف عن ترداد الكثير من الأكاذيب والافتراءات التي أرهقت المتحصنين في القسطنطينية قبل أن يفتحها المسلمون، وهُم يتجادلون في: كم ملاك يقف على رأس الدبوس!

وأرهقت هذه الكوميديا السوداء واللطميات الشعب الفلسطيني الذي كان ينتظر انفراجة في موسكو، أو غيرها، فإذ بحركة "حماس" تعلن الانسحاب ممَّا وقعت عليه، كما تعلن الانسحاب من وثيقتها هي في قطر عام 2017 فيتكامل ذلك مع الحفل في غزّة.

تقرير ما تُسمّى لجنة الرقابة العامة وحقوق الإنسان والحريات العامة في المجلس التشريعي-المنحل الذي حمل اسمًا معيبًا، وهو: "جرائم عبّاس وحكوماته بحقِّ الشهداء والأسرى والموظفين العموميين في قطاع غزّة وتداعياتها"! تتلوه هدى نعيم من كادرات "حماس"، وتقول: "ندعو لضرورة التصدي لهذه "الإجراءات الإجرامية" على مستوى الكل الوطني من خلال تشكيل لجنة طوارئ وطنية تضم فصائل العمل الوطني كافة لمواجهة هذه السياسات الإجرامية!"

ويقول يوسف الشرافي من فصيل "حماس" في ذات الجلسة: "هدف محمود عبّاس من قطع رواتب الشهداء والجرحى والأسرى ( ) لمحاربة كل من له صلة بالمقاوم"!.

ويقول عاطف عدوان: "نُطالب بإنشاء صندوق وطني لمخاطبة أحرار العالم لتوفير أموال لهذا الصندوق وتُقدّم للذين قطعت رواتبهم من أهالي الشهداء والجرحى والأسرى". مضيفًا أنّه: "يجب أن يحاكم هذا الرجل الذي هدم قضيتنا، ونشدِّد على ضرورة أن تضغط المقاومة الفلسطينية! على الاحتلال لأنّه يحمي عبّاس" على حد وصفه.

ويقول صلاح البردويل: "أدعو لخروج مئات الآلاف من جماهير شعبنا بمظاهرات حاشدة في غزّة والخارج ضد أي خطاب لعبّاس، وأن يرفعوا بطاقات حمراء تطالب برحيله"!

ويقول د.محمود الزهار: "أدعو لإرسال تقرير مفصَّل عن جرائم عبّاس ضد غزّة، وأن يُرسَل لكل منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، واطلاعهم بهذه الجرائم!".

إلى ما سبق، وعلى النقيض تمامًا، ودون شتم أو طعن، وبوضوح قال رئيس دولة فلسطين محمود عبّاس "أبو مازن"، "إنَّ قرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي، قرصنة أموالنا، تحت ذريعة أنَّها تُدفَع لعائلات الشهداء والأسرى، هو إجراء احتلالي يأتي في سياق تشديد الحصار علينا".

وأكَّد الرئيس عبّاس - لدى ترؤّسه اجتماعًا للجنة المكلَّفة بمتابعة تنفيذ قرارات المجلس المركزي، بمقر الرئاسة في مدينة رام الله الأربعاء 20-2-2019 - أنَّ هذا القرار يُعَدُّ مسمارًا في نعش اتفاق باريس، وتنصُّلاً واضحًا من كلِّ الاتفاقات الموقَّعة، ويعني أنَّ "إسرائيل" تستبيح كلَّ الاتفاقات الموقَّعة بيننا، وليس اتفاق باريس فقط.

وأعلن الرئيس عبّاس أنّه: "بِاسم الشعب والقيادة الفلسطينية، أُعلنُ رفضَ وإدانة هذا القرار الظالم"، مُضيفًا: "إنَّ موضوع عائلات الشهداء والأسرى في سلَّم أولوياتنا القصوى، وأيُّ مبلغ يتوفَّر لدينا سيكون مخصَّصًا لهم، حتّى يفهم الجميع أنَّ الشهداء والأسرى والجرحى هم أعظم وأشرف ما لدى شعبنا الفلسطيني".

كيف نفهم هذا الوضوح المتكرِّر للرئيس عبّاس في مقابل الكذب الصراح في ادّعاءات قطعِ رواتب الشهداء والأسرى؟! وهي معركة نجاح فلسطيني فذ، حتى الآن أشهر سيفها الرئيس أبو مازن من زمن طويل في وجه الإدارتين الاستعماريتين في تل أبيب وواشنطن؟

كيف نفهم هذا التناقض بين الواقع والحقيقة وبين الخيالات؟ أي بين ما يقوله الرئيس محمود عبّاس بحق الأسرى والشهداء وينفذه، وبين ما تقوله تيّار "حماس" الإقصائي ثُمَّ تعود لتنكُّره؟!

كيف نفهم حجم الغياب عن الوعي بمجريات الأمور حين تطغى الحزبية اللعينة الضيقة بما هي انحسار للسياسة في بوتقة الشخوص فقط او الرأي المقدس؟

هل وصلت بنا الأمور إلى الدرجة التي نجعل فيها من الخلافات الداخلية حائطًا منيعًا ضد الاتفاق؟ ولو على قصاصة ورق، بل وجعلناها سورًا أفظع من السور الإسرائيلي الذي يسرق أرضنا ويقسّم بلادنا، وأفظع من سور الرئيس الأمريكي القادم ضد المكسيك؟

هل وصلت الأمور بتيّار "حماس" الرافض للمصالحة والساعي لإمارة غزّة لهذا الحد؟ هل ستخلّد معادلة معسكر الرفض الحمساوي باعتبار معسكره هو معسكر النور والمقدس والحق والمعسكر الآخر معسكر الظلام والردة والكفر؟! ما وجدنا ضده ما أثلج صدرنا حينها فيما قاله خالد مشعل في وثيقة 2017 التي فاجأنا أبو مرزوق بملء الفم في موسكو حين صرح: "إنّنا تخلينا عنها"! أي أنَّه مزّقها بكل صراحة!

فكر المعسكرَين وهو الممثّل لتيار أسود "بحماس" قام بالانقلاب الدموي عام 2007 ظننّا أنّه ينحسر، لكنه يتعملق للأسف في "حماس"، وهو التيار الذي سبق وقال علنًا ومن على المنبر: "لإن مدَدْتَ يدك لي لتصافحني لن أقول سأقطعها، بل أقول سأقطع رأسك"!؟ ولا تتعجّبوا فهذا ما قيل ونُفِّذ من رجال مفتي الفتنة المستمرة حتى اليوم، والتي فاقت فتنة الصحابة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان!

نحن نقول بلا مواربة ورغم كلِّ ذلك إنَّ "حماس" جزءٌ منا، ففيها الجيد وفيها السيّء ككلِّ الفصائل وفي المجتمع، ولكن لا يمكن أن يتفهَّم أحد أن يظل الشعب الفلسطيني متفتتا هكذا، وتمارس عليه الأكاذيب والدجل وادّعاءات الحق أو القداسة فيما الحقيقة واضحة كليا، فلا مقاومة مسلَّحة تنطلق من غزّة، فيما التأكيد من كافّة الفصائل على المقاومة الشعبية هنا وهناك، يقابل فقدان المقاومة المسلحة هذه نكران فظيع لمنجزات المنظمة إلى حد التبرؤ من أيِّ نجاح تحققه، بما فيه النجاح برفض وصف "حماس" بالإرهاب في الأمم المتحدة!

العيون المتعصِّبة والعقول المتحجِّرة قد عميت عن الرؤية، وهذه قاعدة عامة، ولربما استراحت الكثير من الأقفية في مقعد السلطة، وعلى الفضائيات فاستسهلت الطعن فلا متغيرات الإقليم تهمها؟ ولا متغيرات النفوذ العالمي تطل عليها، ونحن نرخي آذاننا لهذه الدولة أو تلك! سواء تلك التي تحاربنا عبر تحقيق فصل غزّة عن الضفة انصياعا للإرادة الإسرائيلية، أو تلك التي تستبيح العالم العربي تحت ادعاء المقاومة؟

لقد حارب ياسر عرفات اكثر من 40 عامًا انتصارًا لفلسطين وضد تحكُّم الآخرين بنا في سياق فهمه للعلاقة الوثيقة بيننا والأمة والخصوصية والتكرس والأولوية، رافضًا بإباء منظمة التحرير الفلسطينية إراقةَ دم القرار الوطني النضالي الفلسطيني المستقل، فمَن يبيع قراره للمال أو للحفاظ على المركز أو "الجماعة" لا بد سيتبجَّح بالكثير من التفوهات التي لا تعني شيئًا، إلّا الغياب عن الوعي، فالدنيا لا تتمحور اليوم حولنا، وسيكبر الشعب الفلسطيني دوما بوعيه فهو شعب ذكي لن يتم الضحك عليه مرة ومرات.