يعتقدُ الرئيس ترامب ومستشاروه، ويعتقد نتنياهو وحكومته اليمينية، أنَّه يمكن إخضاع الرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية والقبول بصفقة القرن من الذراع الذي تؤلمه، "رواتب أُسُر الشهداء والأسرى"، فلا يمكن عزل قرار المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغَّر بتجميد رواتب أُسَر الشهداء والأسرى من المقاصّة الفلسطينية وتوقيته عن رفض الرئيس لصفقة ترامب التصفوية، بل ومقاومتها.

من المعلوم منذ أوسلو أنَّ جزءًا من أموال الضرائب والجمارك الفلسطينية التي تجبيها (إسرائيل) كقوّة احتلال يذهب رواتب لأُسر الشهداء وللأسرى وعائلاتهم، ولم تكن هذه قضية خلافية، إلّا قبل سنتين مع إدارة الرئيس ترامب وإصرارها المعلَن على تصفية القضية الفلسطينية عبر ما يُطلَق عليه صفقة القرن. القرار الذي اتّخذه المجلس الوزاري المصغَّر، كان حتى صدوره، إحدى الأدوات التي يلوِّح بها للضغط على القيادة الفلسطينية، وعندما فشلت أداة التلويح لثني الرئيس أبو مازن أو حتى إقناعه لتليين موقفه الرافض قطعيًا لصفقة القرن حوّلوا التلويح إلى قرار.

لماذا الآن؟

الحَسم جاء بعد القرار الفلسطيني بمقاطعة مؤتمر وارسو الذي أرادوا منه أن يكون مصيدة للقيادة الفلسطينية، ومحاولة لاستدراجها للقبول بمبدأ التفاوض مع (إسرائيل) استنادًا لصفقة القرن. هذا من جانب، أمّا الجانب الآخر فهو أنَّ أيَّ مشروع إقليمي أو ترتيبات إقليمية تقودها إدارة ترامب في الشرق الأوسط هي بحاجة للغطاء الفلسطيني، وهو الأمر الذي لم تُعطِهِ القيادة الفلسطينية أهميةً، وتحديدًا الرئيس أبو مازن، الذي يملك القرار الوطني الفلسطيني المستقل.

ترامب ونتنياهو يدركان مدى حساسية قضية مثل قضية أُسر الشهداء والأسرى، ونذكر هنا أنَّ هذه القضية، كانت إحدى أبرز القضايا النضالية عندما انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، ونذكر أيضًا أنَّ أوَّل مبلغ مالي تلقّاه ياسر عرفات من متبرِّع جزائري، قرَّر أن يودعه بصندوق خاص لرعاية أُسَر الشهداء والأسرى. هذا النهج هو أساسي وجوهري فمَن يستسهل التخلّي عن أُسَر الشهداء يمكن أن يستسهل التخلّي عن الثوابت الوطنية، وهذا هو جوهر موقف الرئيس أبو مازن، الذي يُدرك أكثر من غيره أنَّنا لا نزال في مرحلة التحرر الوطني، مرحلة الكفاح من أجل الحُرّية والاستقلال، وهو أكثر المدركين أنَّ أيَّ لين بهذه القضية سيقود حتمًا للرضوخ وهو أمرٌ لا يمكن قبوله لا اليوم ولا في أي مرحلة مقبلة.

وخلال ذلك كلّه، علينا أن نُدرك أنَّ المغامرة غير المحسوبة بهذا الشأن ستقود إلى نتائج عكسية وسلبية على النضال الفلسطيني، لذلك علينا أن نمشي في حقل الألغام وعلى الخيط الرفيع بحذر شديد، كي لا نضيع هذا الصمود وما يمكن أن نقطفه من ثمار بأيدينا، وأعتقد أنَّ الرئيس خير المدركين لذلك.

غريبٌ هو أمر هذا العالم الذي لا همَّ له سوى الإمعان في ظلم الشعب الفلسطيني إمعانًا يأخذ شكل التوحّش، فمن لحظة الظلم الأولى في وعد بالفور، وحِرمان الشعب الفلسطيني من وطنه وتاريخه، إلى لحظة الظلم الأشد في صفقة القرن التصفوية، والعالم ذاته يندهش يوميًّا من قدرة هذا الشعب على الصمود في وجه هذا الظلم المتوحش. أمّا نحن فليس لنا سوى إرادتنا الصلبة الحُرّة، وهي إرادة أثبتت أنَّها عصية عن الكسر، وما يمكن أن نفعله على ضوء هذا الضغط والحصار هو التضامن فيما بيننا، وعدم الانجرار خلف حملات التشكيك التي تستهدف الرئيس والقيادة، لأنّها هي جزء من هذه الضغوط.