قرارُ القيادة الفلسطينية بعدم حضور قمّة وارسو، هو قرارٌ له صفة استراتيجية تتعلَّق برفضِ صفقة القرن، وعدم إعطاء أيِّ مؤشر عبر الحضور بأنَّ الفلسطينيين يمكن أن يقبلوا أو يتعاطوا مع الصفقة أو يتفاوضوا بشأنها. السبب الآخر لعدم الحضور جاء انطلاقًا من سياسة النأي بالنفس والنأي بالقضية الفلسطينية عن الصراعات الإقليمية، وهو نهجٌ كرَّسه الرئيس أبو مازن منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وما نجم عنها من تداعيات مُدمّرة.

مؤتمر وارسو جاء بقرارٍ من إدارة الرئيس الأميركي ترامب، بعد قراره الانسحاب من سوريا، وبهذا المعنى فالمؤتمر جاء لطمأَنَة (إسرائيل) أساسًا بأنَّ الانسحاب الأميركي لا يعني بأيِّ حال السماح بالمسِّ بأمنها، أو أن يسمح للمشروع الإيراني بالتمدُّد في المنطقة. ولمزيد من طمأَنَة (إسرائيل) وإعطائها ما تريد جاء الحديث بدمج موضوع صفقة القرن بالمؤتمر ليمثِّل غطاءً دوليًّا لها، الأمر الذي دفع القيادة الفلسطينية أكثر لعدم الحضور والمشاركة لكي لا نكون جزءًا من هذا الغطاء، وفي نفس الوقت لعدم إعطاء هذا التجمع أيَّ شرعية إشرافيّة.

الرئيس، والقيادة تدرك أنَّ ثمنَ اتّخاذ هذا الموقف سيكون باهظًا أو سيُترجَم بمزيد من الضغط والحصار الاقتصادي والسياسي. فهذه الضغوط التي بدأت تتدحرج منذ أن رفض الرئيس صفقة القرن وإعلان ترامب أنَّ القدس عاصمة لـ(إسرائيل)، ومحاولات إدارة ترامب تصفية قضيّة اللاجئين عبر إنهاء دور "الأونروا"، فالجديد بهذا الشأن هو تنفيذ الحكومة الإسرائيلية لتهديداتها باقتطاع مخصّصات أُسَر الشهداء والأسرى من المقاصة الفلسطينية، وهو ما رُفِضَ رفضًا قاطعًا.

الأمر المحسوم بشكل تام هو رفض صفقة القرن فلا مساومة من القيادة على حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعة مهما بلغت التضحيات. فالقبول بالصفقة يعني الاستسلام التام للمشروع الصهيوني والرواية الصهيونية، وهو أمرٌ لن يقبل به أيُّ فلسطيني فما بالكم بقيادته الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني.

قضية أخرى تتعلَّق بمؤتمر وارسو، قبل أن نغادره، وهي تتعلَّق بالمشروع الإيراني في المنطقة، فعدم حضور الفلسطينيين لا يعني قبولهم بأيِّ تمدُّد إيراني على حساب الأُمّة العربية مهما كانت مبررات هذا التمدد. وهنا لا بدَّ من توجيه نصيحة للجيران الإيرانيين سيكون دورهم مرحبًا به إذا جاء عبر التنسيق والتكامل مع الأُمّة في مواجهة (إسرائيل) أو أي عدوان على المنطقة من خارجها، ولكن لا يمكن القبول بالتدخل بالشؤون الداخلية للدول العربية، أو الموافقة على لعب دور إقليمي على حساب المصالح العربية.