يُدرك الرئيس الأميركي أنَّه لا يستطيع تحقيق الهدف الأول من المؤتمر الدولي الذي دعا إلى عقده في العاصمة البولندية وارسو، لأنَّه يعلم إلى حدِّ اليقين أنَّ القضاء على تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، واستلاب القرار الوطني الفلسطيني المستقل سيكون ممكنًا في حالة واحدة وفريدة ، هي عندما يتمكّن علماء وخبراء ناسا في الولايات المتحدة الأميركية من استنبات سنبلة قمح على كوكب الشمس، وهذا المستحيل بعينه!!

ما يريده ترامب قد يأخذه من نُظُم سياسية رسمية عربية معنية بإسقاط الالتزامات التي قضتها المبادرة العربية عن كاهلها، بعد أن أصبحت مرجعية إلى جانب المرجعيات الدولية لحل القضية الفلسطينية، أي الانتقال من العلاقات السرية والتطبيع الخجول مع دولة الاحتلال (إسرائيل) إلى علاقات استراتيجية، وتطبيع مفتوح ومتحرر من أدنى أشكال الحياء السياسي والمتعارض مع التراث القومي والعروبي، لأن المبادرة العربية قد اشترطت إقامة علاقات طبيعية وليس التطبيع بعد "قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ذات سيادة"؟!

نتنياهو الذي سارع مع بدء حملة الدعاية للانتخابات الإسرائيلية إلى وضع صورة تجمعه مع دونالد ترامب بارتفاع عمارة يقدر ارتفاعها بعشرة طوابق فإنه يسعى لتبديل مفهوم (إسرائيل) القائم لدى العرب ودولهم وأنظمتهم السياسية من دولة احتلال استعمارية استيطاني عنصرية إلى دولة حليف استراتيجي في جبهة واحدة لمواجهة ما يُسمّيه نتنياهو (عدو وحيد واحد مشترك) هو ايران، وسيجد ضالته في مؤتمر وارسو ليكرس هذا المفهوم مدعوما من رئيس صفقة القرن والوعد البلفوري الثاني، ومن يدري فقد يعلن نتنياهو بسرور عن انطلاق برنامج عمل منظم مع أهل الضرب والطرح والقسمة دون الجمع ومحاسيبهم (الحواسيب) لدى أنظمة رسمية عربية، بعد تزويدهم بذاكرة جديدة خالية من صور جرائم (إسرائيل) ضد الانسانية، وجرائم الحرب، والاحتلال والاستيطان، والقوانين العنصرية، والابرتهايد، والمجازر، وإبادة القرى، وتهجير ملايين الفلسطينيين وتشريدهم من موطنهم، سيبدأ هذا في اللحظة التي يتم فيها الانتهاء من تفريغ هذه الذاكرة العربية الرسمية من كل هذه الصور ومعها ملايين السجلات عن النظام العنصري الأخير في العالم، ودولة جرائم الحرب كمرحلة أولى، ستليها الشعبية أو ربما بالتوازي حتى، وإن اعتقدنا باستحالة تحقيق المرحلة التالية لاعتبارات أهمّها الثقافية، فهنا في فلسطين يتعرض المسجد الأقصى قِبلة المؤمنين المسلمين الأولى للتهويد وتحدق به مخاطر الانهيار، وهنا أيضًا مهد المسيح وكنيسة القيامة قبلة المؤمنين المسيحيين في العالم، هذا ولم نتحدث بعد عن الفكر القومي والعروبة والأمة الواحدة والمصير المشترك.

ترامب ونتنياهو سيطلقان من وارسو صاروخ تطبيع باتجاه عواصم عربية باحتفالية غير مسبوقة، تخفف بعضا من خوف داهم على بعض العرب من ناحية ايران، يتم تضخيمه وتصويره لهم على انه تهديد وجودي، وبالمقابل يتم تقديم التهديد الوجودي الحقيقي كمنقذ، ومثبت أركان، وعامل تنمية، وتوحيد (جبهة مشتركة لمواجهة ايران) فيما كل العرب وكل العالم وعلى رأسهم صناع القرار في إدارة ترامب يعلمون أنَّ (إسرائيل) بسياستها كدولة احتلال ونظام عنصري وبجرائم ساستها وقادة جيشها هي التهديد الوجودي للفلسطينيين أولاً ثُمّ العرب، ومدمّر أركانهم وركائزهم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وأشد عامل تقسيم وتفكيك في مجتمعات العرب ودولهم.

قد يكسب ترامب ونتنياهو ممَّن سيحضرون في وارسو لكنهم ما لم يكسبوا منا فهم خاسرون وخاسئون حتمًا، ولن يكسبوا منا أمرًا ما لم نكسب حقوقنا وإقرارهم واعترافهم للشعب الفلسطيني بحقه في إنجاز استقلاله الوطني بقيام دولة مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967 وعاصمتها الأبدية القدس الشرقية. فمدينتنا المقدسة، كما قال الرئيس أبو مازن ليست للبيع، وقرارنا الوطني المستقل ومنظمة التحرير الفلسطينية والوطن ثالوثنا المقدَّس، وعهدنا بالوفاء لكل روح فلسطينية وعربية إنسانية استشهدت من اجل تجسيمه كحقيقة قائمة في الباقي من عمر الزمان.