أن تكون مناضلاً فهذا يعني أن تحيا ثوريًّا بأفكارك وأعمالك، ورؤاك، لا فصل بين دائرة وأخرى لأنَّها ليست مستقلة عن بعضها، وإنَّما متتابعة، وبإمكانك تخيُّل الدوائر المتشكِّلة إثر رمي حجر في ماء راكد.

أن تكون مناضلاً فهذا يعني أنَّ الوطنية عقيدتك، تثور كلّما خدشها غُزاة أو محتلون أو قراصنة ينبتون كالفطريات والمتسلّقات حيث تُحجَب شمس الثورة ونورها، أو نكفَّ أنا وأنت وهي وهو للحظة عن التفكير والبحث عن السبب المانع لوصول إشعاعها إلى كلِّ مكان في الوطن، وكل ثنية في دماغ إنسان.

أعظم وأنبل وأحسن فكرة هي المتكوّنة نظريًّا في عقل الإنسان، لكنَّها تبدأ بالتناقص لحظة ولادتها والبدء بتجسيدها، وقد تكون معظم الأفكار خاضعةً لهذا المنطق، إلّا فكرة الثورة في عقل المناضل الوطني، فإنَّها تولد كبيرة ناضجة، تتعاظم لكن لا تتضخَّم، تتقدَّم بالعمر لكنَّها لا تشيخ ولا تعجز، ليس فيها لحظة أو مكان للذروة، فالثورة لا تقبل منطق العد العكسي، أو الهبوط، إنَّها كمنطق الزمان وموجودات الكون في حركة واتساع بلا حدود.

قد يرى البعض هذا الطرح مثاليًا غير ممكن واقعيًّا، لكن من قال إنَّ الثورة مجرّد عمل أو فعل كفاحي يعكس جوهر النظرية وحسب، أو أنَّ المحطة التي نشهد فيها تحقيق هدف التحرُّر والحرية هي نقطة الذروة، فهذا المنطق كان السبب الرئيس الذي أدّى إلى انكفاء ثورات وإهدار التضحيات، وذهاب منجزاتها مع الريح. لو نظرنا إلى حالتنا الفلسطينية لأدركنا عمق الهوّة التي سقطنا فيها بسبب تسرُّعنا في رؤية وتقدير الأمور والقضايا، حتى أنَّنا لم نفرّق بين السراب والحقائق المادية، فحلَّ منطق السباق على المكاسب والمسميات، مكان منهج البحث والعمل على رفد منطق الثورة بأفكار خلّاقة محمولة على جوهر الأفكار التي ابتدأنا بها مسيرتنا النضالية الوطني، فنسينا أنَّنا حتى وإن تجاوزنا مرحلة حركة التحرُّر فإنَّنا نحتاج إلى أفكار ثورية خلّاقة لمرحلة الدولة فيما الزمن يواصل تقدُّمه في مسار الصراع مع المشروع الناكر أصلاً لوجودنا، الذي قد حدَّد هدفه النهائي بإخراجنا عن سكة الحياة الحضارية العصرية، وإبقائنا على سِكّة دائرية نعود إلى نقطة الانطلاق كلّما سافرنا في الزمن عقدين أو أكثر، هذا إن لم نسقط كسقوط غريق في دوامة بحريّة!

نُدرك جيّدًا أنَّ مناضلين قادة في المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" الذي افتُتِحت دورته العادية أمس في مقرّ الرئاسة في رام الله، سيناقشون ملفات وقضايا وطنية وداخلية تنظيمية على جدول الأعمال بنظرة ورؤية المناضل الثائر الوطني التي قدّمناها، وندرك جيّدًا أنَّ المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية وبهُويتنا الوطنية، وبوجودنا حتى، تدفع الكثير من المناضلين في إطار المجلس الثوري باعتباره أعلى سلطة في الحركة بين المؤتمرين إلى إعادة بلورة مفهوم الانتقال من السلطة إلى الدولة، والتي مهما قرأنا الاجتهادات فيها يجب أن تخبرنا أنَّنا مُقبِلون على مرحلة أخرى من مسيرة الثورة المعاصرة والتي تعني إغناء الحالة الفلسطينية الوطنية بإبداعات ثورية خلّاقة، مولودة من رحم الواقعية والعقلانية السياسية، فالثورة أولاً وأخيرًا هي عِلم وفن استخدام الممكن لتحقيق إنجازات يعتقد البعض أنَّها واقعة في دائرة المستحيل. نحنُ نحتاج إلى رؤية ثورية جديدة تُنظَّم على أساسها مؤسسات الدولة، وتضبط علاقة القوى الوطنية مع بعضها ومع جماهير الشعب الذي يجب أن تبقى مصالحه العُليا فوق كل اعتبار.

تتطلَّب المرحلة استبدال الفراغ القائم في المسمّيات والمصطلحات الرسمية، والفصائلية، والحزبية، والخاصة اللاحكومية بالعمل الملموس على الأرض، وكبح ورفع الغطاء عن الحشوات المزيّفة الكامنة في مفاصل المؤسسات على امتداد الوطن، والتي باتت المعيق الأكبر لتطوّر فكرة الثورة، وسدًّا سلبيًّا أمام تجذُّرها في وعي المواطن الفلسطيني. فهذا الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني العنصري نوعي، لا ينتصر عليه إلّا شعب ثوري يتبنى أفكار ثورة خلّاقة نوعية تحرص قيادات حركته الوطنية على بلورتها وإعادة صياغتها وزيادة بريقها كلما خدشتها أو تراكمت عليها أثقال العوامل الخارجية.

ثوري "فتح" يحمل مهمة الانتقال من الثورة إلى الثورة فالثورة أيضًا، فالدولة المستقلّة ذات السيادة والابتداء بها من حيث يقف العالم الآن يتطلَّب ثورة عقول وسواعد ونفوس وطنية متناغمة منسجمة متكاملة.