كثيرون يتحدّثون عن ضرورة الشراكة السياسية من دون إلمام بمضمون المصطلح والمفهوم السياسي، وتتباين القطاعات والنخب الحزبية والسياسية في فهم العنوان، فمنهم مَن يحصرها بحصته في هذا الموقع، أو تلك المؤسسة، أو في أي تجمُّع عام رسمي أو شعبي، والبعض الآخر يردّدها كاجترار، ولازمة سياسية دون التدقيق في دلالاتها، ومعاييرها، ومحدّداتها ومبادئها الناظمة، والبعض ينظر للشراكة نظرة جزئية ضيّقة بمقدار ما تخدم نفوذه ومركزه القيادي، والبعض الأخير يعي حقيقتها شكلاً ومضمونًا.

وللإسهام في التعريف بالشراكة السياسية، تُملي الضرورة تسليط الضوء عليها من الزاوية النظرية والتطبيقية، لأنَّ بعض القوى مرتاحة ومستفيدة من الضبابية السائدة في أوساط النخب الحزبية والسياسية، كون الالتباس القائم يخدم أغراضها ومصالحها. وحسب ما اعتقد تقوم مبادئ الشراكة السياسية على التالي:

أولاً، قبول الآخر في الساحة السياسية والحزبية والاجتماعية، بغض النظر عن درجة الاختلاف أو الاتفاق في النطاق الوطني، والإقرار بأنّه شخصية مستقلة في الواقع المحدّد.

ثانيًا، قبول الاختلاف مع الآخر، والاستعداد للتعامل معه إذا أملت ذلك الضرورة في لحظة سياسية محدّدة.

ثالثًا، وارتباطًا بما تقدَّم، التخلّي كليًّا عن منطق فرض الرأي على الآخر شخصًا أم حزبًا أم تجمُّعًا، والتعامل بإيجابية مع المكونات الفاعلة في المجتمع.

رابعًا، الإيمان بالتعدُّدية، والإقرار بوجود شركاء آخرين في السياسة والمجتمع وميادين الحياة المختلفة، لا يجوز، وليس مسموحا نفيهم، أو إدارة الظهر لهم.

خامسًا، الالتزام بخيار الديمقراطية وتفرعاتها المختلفة: حرية الرأي والرأي الآخر، الانتخابات معيارًا أساسيًّا في كل المؤسسات، حرية التعبير، والتظاهر والاعتصام والتنظيم.

سادسًا والمساواة بين المرأة والرجل، حيثُ لا يمكن الإقرار بالمبادئ المذكورة آنفًا، ثم ترفض أي قوة المساواة بين المرأة والرجل، ومنحها حق الشراكة الكاملة في بناء المجتمع، لأنّ هناك تلازم عميق وديالتيكي بين البناء المجتمعي والسياسة، فلا بناء دون سياسة واقتصاد.

سابعًا، الابتعاد عن منطق الاستعلاء، واستصغار شأن الآخر مهما كان، لأنّ منطقًا كهذا يقوّض الشراكة، ويسبّب فجوة كبيرة بين الشركاء، ويؤصل للأزمات. وبالتالي على القوى الكبيرة والمركزية، والممسكة بزمام الأمور في زمن معين الحرص على توسيع دائرة الشراكة مع الآخرين مستقلين وأحزاب وتجمعات، والابتعاد عن سياسة التهميش للآخر.

ثامنًا، الاستعداد الدائم لتقديم تنازلات لصالح بناء شراكة سياسية وطنية أو طبقية بما يخدم الصالح العام، لأنَّ الإصرار على المواقف الخاصة لهذه الحركة، أو ذاك الحزب، أو تلك الجماعة لا يخدم بناء الشراكة السياسية الناجحة، ولأنَّ منطق الاستقواء بالثقل السياسي والحكومي، أو أيًّا كان شكل النفوذ، يضرب ركيزة أساسية من ركائز الشراكة، لا سيما أنَّ كلَّ شراكة تقوم على قاعدة القواسم المشتركة لوضع برنامج وطني أو قومي أو اجتماعي عام، وليس على قاعدة الإملاءات، أو وفق المقولة الشعبية "يا بيعجبك، يا إن شاء الله ما بيعجبك". هذه المقولة لا تخدم أي شراكة من أي نوع، لأنّ الحكمة تستدعي استقطاب الآخر، وليس تنفيره وإبعاده.

تاسعًا، الإقرار والالتزام بالقيادة الجماعية، والابتعاد عن سياسة التفرُّد في القرار، والإصغاء الدائم لصوت وموقف الشريك السياسي والحزبي الجبهوي، لأنَّ كل شراكة، هي ائتلاف جبهوي عريض أيًّا كان شكل ومضمون الشراكة.

عاشرًا، الالتزام ببرنامج الإجماع الوطني، القاسم المشترك الأعم، وعدم تجاوزه قبل العودة للإطار القيادي الجبهوي، لأنّ التجاوز، أو القفز عن البرنامج، ينتج عدم الثقة، ويؤدّي لأزمات بين مكونات الائتلافات الجبهوية العريضة، ويُعزّز عوامل الفرقة والتنافر ويمهد للتفكك.

حادي عشر، الانشداد دائمًا وأبدًا للوحدة الوطنية، وللمصالح العامة للشعب بغض النظر عن مضمون الائتلاف الجبهوي، وتغليب العام على الخاص، لأنّ هذا يعطي المصداقية للآخر، ويعزّز الشراكة، ويصون الائتلاف أطول فترة تاريخية ممكنة.

ثاني عشر، الشراكة مع أنّها تقوم على النِّدية بين الأطراف المكونة للائتلاف، غير أنَّ هناك موازين قوى، وحجوم للقوى والأحزاب والشخصيات المكونة له، ولا يجوز المساواة بين القوى في التمثيل داخل أطر الائتلاف، وعلى القوى الصغيرة والمتوسطة الثقل (صناديق الاقتراع كفيلة بتحديد مكانة وثقل كل قوة وشخص في المجتمع) الإقرار بمكانة القوة المركزية في تبوّؤ مركز الصدارة في الائتلاف، واحترام مكانتها ودورها في قيادة دفة الائتلاف، ولكن وفق المحدَّدات سابقة الذكر، فالنّدية لا تعني المساواة المطلَقة، لا وجود للمساواة المطلقة بين القوى الائتلافية، وبالمقابل لا وجود لائتلاف يقوم على الاستئثار بكل المواقع والمراكز، وإنما تقوم الشراكة على أساس نسب وثقل كل قوة في المجتمع.

والشعب العربي الفلسطيني، الذي يخوّض نضالاً وطنيًّا وقوميًّا تحريريًّا منذ أكثر من سبعين عامًا، دائمًا هو بحاجة للإطار الوطني الجامع والموحد لقواه الوطنية، ولهذا تمَّ إنشاء وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وبقيت الإطار الوطني الجامع للكل الفلسطيني بعد هزيمة حزيران / يونيو عام 1967، وأمست الممثّل الشرعي والوحيد للشعب، والمعترف به عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ولها برنامج وطني جامع، وقيادة واحدة عنوانها اللجنة التنفيذية للمنظمة والهيئات القيادية الأخرى (مجلس وطني، مجلس مركزي وصندوق قومي ودوائر مختلفة) وتقوم على الشراكة السياسية، تلعب حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" الدور المركزي، لأنّها فعليًّا تُشكّل العمود الفقري للمنظمة، وهي قائدة المشروع الوطني، وحتى تحافظ "فتح" على مكانتها ودورها يتطلّب منها دائمًا تعزيز الشراكة السياسية مع الفصائل الوطنية والعاملة في الساحة. ومن مصلحتها التنظيمية والوطنية عدم تجاوز أيّة قوّة أو حزب أو حتى الشخصيات المستقلة، رغم حدة الاختلافات والتباينات فيما بينها وبين تلك القوى، حتى القوى الإسلاموية صاحبة الأجندات والمشاريع المتناقضة مع المشروع الوطني، تحتّم عليها الضرورة التعامل معها، لدرء أخطارها وأجنداتها، وعليه مطلوب أخذ مكانتها بعين الاعتبار، ولكن دائمًا وأبدًا وفق المصالح الوطنية العليا، لأنَّ القبول بالآخر مشروط بقبوله البرنامج الوطني، وليس قبوله لأنّه موجود في المجتمع، فهناك وجود ووجود، وليس كل وجود من الملزم الاعتراف به، إلا بمقدار تماسه وارتباطه بالمشروع الوطني. وبالمحصلة في ظل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإحلالي والإجلائي، تحتّم الضرورة على القوة الأكبر التعامل باحترام متبادَل مع القوى المختلفة، وعلى أرضية الشراكة الحقيقية من دون أيّ تطرّف من أيّ نوع، لأنّ المطلوب دائمًا وأبدًا الانشداد للوحدة الوطنية، لأنّها تمثِّل أداةً وهدفًا في آن، ولأنّها تصب مباشرة في تعزيز مواجهة التحديات الداخلية والخارجية أيًّا كانت عناوينها ومسمّياتها.