تقرير: جميل ضبابات

في سنوات الطفولة، اختبر هايل التركمان التشريد من مسكنه الواقع في خربة جبلية شمال طوباس في الضفة الغربية، عندما دفعهم الجيش الاسرائيلي إلى ترك منازلهم لإجراء تدريبات عسكرية.

حدث ذلك لأول مرة في حياته تحديدًا في العام 1994، حين أجبرت العائلة على الهجرة المؤقتة وكان هو فتى يسير في تلك الرحلة إلى جانب والديه.

بعد 24 عامًا تحديدًا في هذا اليوم، يجرب التركمان التشريد مرة أخرى، لكن هذ المرة مع زوجة وثمانية أطفال، أصغرهم بعمر سنة ونصف وأكبر فتى في الـ17 عامًا، وللسبب ذاته، تترك العائلة المنزل وتسير في طرق جبلية وعرة، إلى مناطق بعيدة عن المسكن.

كانت عائلة التركمان، الممتدة التي تسكن شمال الضفة الغربية، جربت التشريد لأسباب قريبة، عام 1948 عندما هجرتها العصابات الصهيونية، عن قراها قضاء حيفا.

وذاتها عائلة التركمان قدِمت من قرية تدعى الغبية قرب المدينة الساحلية الشهيرة.

كان في ذلك الوقت أجداد هايل في شبابهما وولداه في طفولتها، وجربوا جميعهم التشريد الذي مازال مستمرًا حتّى اليوم.

ذات صباح (26 كانون أول 2018) أجبر تركمان ونحو 13 عائلة على ترك منازلهم في خربة ابزيق بأمر عسكري اسرائيلي يمتد لـ24 ساعة.

وسارت العائلات في طابورين في شارع ترابي، وترافقها دوريات اسرائيلية للتأكد من إخلاء المنطقة.

وقال هايل: "هذه المرة الثالثة التي يطردوننا من مساكننا هذا الشهر". وينظر السكان إلى شهري كانون الأول والثاني على إنهما أصعب الاشهر، فظروف جوية قاسية قد تجعل كل شيء في مهب ريح الشتاء.

وأمكن من على بعد عدة كيلومترات مشاهدة العديد من العائلات تسير وقد تركت وراءها المساكن التي تسكنها.

وقال تركمان "لا مكان الآن لنا الجبال".

ولم يتضح إلى أي مدى ستسير العائلات التي أجبرت على إخلاء منازلها، اذ تورات وراء الجبال التي تقع إلى الغرب من المساكن.

ودفع الجيش الإسرائيلي بعدة مركبات عبر الحقول سارت خلف المشردين للتأكد من إخلاء المنطقة.

ويتلقى المواطنون الفلسطينيون هنا في هذه المنطقة ومناطق رعوية أخرى أوامر مباشرة مكتوبة وشفوية لإخلاء منازلهم.

وقال تركمان بعد أن أخلت عائلته مسكنها "جاؤوا قبل أربعة أيام وأخبرونا بأن نغادر منازلنا".

عند 12:17 دقيقة، خرجت العائلات من منازلها.

وقال الرجل "لم نحمل شيئا معنا"، وأمكن بصعوبة مشاهدة العائلات خالية من أي حمولة، إلّا همومها.

وشوهدت عشرات الدبابات المدرعة والمدفعية تحيط بمساكنهم.

وشوهد أيضًا مئات الجنود يسيرون في الحقول التي تحيط بها.

وأمكن مشاهدة رجال برتب عالية من الجيش يدرسون الخرائط التي تشير إلى الأراضي التي تجري فيها المناورات العسكرية.

وغالبًا ما تحصل عمليات الترحيل في الصباح الباكر، فلا يذهب التلاميذ إلى منازل، ولا تخرج المواشي إلى المراعي.

وقال التركمان" هذا اليوم ذهب الأولاد إلى المدرسة وعادوا مبكرًا قبل الرحيل، لكن في المرات الماضية لم يذهبوا".

وشوهد أطفال صغار يمسكون بأذيال ثياب أمهاتهم وهنَّ يسرن وسطوح المنازل المغطاة بقماش أبيض تختفي عن أنظارهم، كلّما خطوا إلى الامام.

ويتوزع السكان هنا في مساكن صغيرة، تنتشر على مساحات واسعة من الارض ذات التربة الحمراء التي تحيط بها الجبال ذات الغطاء النباتي الكثيف.

فأشجار البلوط وغيرها توفر غطاءً طبيعيًا للجنود الذي يتدربون على الرماية.

وتجري كلمة "ترجيل" كثيرًا على لسان أفراد من جيش الاحتلال، ويعني ذلك في اللغة العبرية، تدريبات عسكرية.

وسمع صوت هدير جنازير الدبابات الإسرائيلية في كل مكان تقريبًا.

وعبَّرت تلك الدبابات من خلال سهول زرعت بالقمح، وقد تقدر المساحة التي خربت في الأيام الماضية بنحو 500 دونم، كما يقول الناس هنا، لكن ذلك التقدير يبقى غير مؤكدًا.

وشوهدت مجموعة من النساء يقطعن الطريق من بين صف طويل من الدبابات المتأهبة للمباشرة بالعملية العسكرية التدريبية هناك.

خلال السنتين الماضيتين أخلى الجيش الاسرائيلي أكثر من 100 عائلة في المناطق الجبلية.

وقال عارف دراغمة وهو ناشط حقوقي يعمل في المنطقة "ذلك يعني أن هناك الكثير من المسنين والأطفال يجبرون على الرحيل مشيًا على الأقدام وبعضهم لا يجد مكان لقضاء حاجته".

وأضاف: "بعضهم بحاجة إلى الدواء والآخر بحاجة إلى مركبات لنقله".

خلال الرحيل الذي قامت بها العائلات اليوم، لم تظهر أي مركبة لنقل المواطنين الفلسطينيين. وقال مواطنون من هذه المناطق أن الجيش يصادر مركباتهم.

ذاته التركمان، قال إن الجيش صادر جراره الزراعي.

وردد المعنى ذاته مواطنون فلسطينيون في تلك المنطقة، قالوا إن جراراتهم صودرت ونقلت إلى معسكرات الجيش الاسرائيلي.

ويدفع الرعاة مبالغ مالية مرتفعة لقاء استعادة جراراتهم.

وقال التركمان "ظل الجيش وراءنا اليوم، حتى خرجنا نهائيًا من المنطقة" وهو بذلك يشير إلى استخدام آليات عسكرية لاحقت حتى الذي حاولوا التواري وراء الجبال للهروب من عملية الترحيل".

وقالت منظمة بتسيلم وهي منظمة اسرائيلية تراقب الأنشطة العسكرية لجيش الاحتلال في الأرض الفلسطينية" وفقًا للأوامر يتوجب على العائلات مغادرة منازلهم أربع مرّات حتى نهاية شهر كانون الأوّل (16 و23 و26 و31 منه) عند الساعة 12:00 ظهرًا وعدم العودة إليها حتى السّاعة 6:00 من صباح اليوم التالي، أي قضاء اللّيل في العراء".

ويعمل السكان هنا في رعي المواشي، وحياتهم الكلاسيكية تقوم على الخروج صباحًا إلى المراعي والعودة مساء والاستفادة من المراعي التي تصبح أكثر غزارة بعد مضي أشهر الشتاء.

عندما ولد التركمان هنا قبل نحو 4 عقود، وجد عائلته في هذا العمل، وأكمل هو مهمة العائلة.

وتحفل المنطقة بغطاء أخضر يأخذ الألباب بعد هطول كميات جيدة من الأمطار.

والأرض تفور بالعشب ومزروعات الحبوب.

وتشكل مناطق السفوح والأغوار ذات الأراضي الخصبة أكبر احتياطي للمراعي الطبيعية، لكنها أيضًا تشكل أكبر مسرحًا للتدريبات التي ينفذها جيش الاحتلال في الضفة الغربية.

وتحول المشهد الأخضر إلى عسكري بالكامل. فالجيش في كل مكان، وآلياته تدور حول السهول وتقطعها من الأطراف والمنتصف.

وفي منطقة تختلط بها السهول الخضراء بالجبال الصخرية توراى جنود الجيش بلباسهم المموه في أسراب من الشجيرات داكنة الخضرة.

ولولا رايات حمراء كانوا يحملونها، لما أمكن مشاهدتهم من مسافة قريبة. وقطعت عائلة التركمان وغيرها الطريق من على بعد عدة أمتار من مجموعات كبيرة من الجنود.

وإلى حد بعيد، تشبه مسيرة الرحيل على الأقدام من المنازل تلك الصور التي يعاد بثها عن عمليات الترحيل التي جرت عام 1948وظهر الفلسطينيون في حينه يحملون بعض ادوات المطابخ والملابس على رؤوسهم.

إلّا أن الراحلين اليوم، لا يحملون حتّى قوت يومهم.

وقال التركمان" تركنا كل شيء في المنزل".

وقد تلجأ بعض العائلات إلى التسلل ليلاً مرة أخرى إلى منازلها. وقال تركمان" لا نعرف أين نذهب. سنحاول العودة".

ولا أحد يعرف إذا ما كان المواطنين الذين أخرجوا من منازلهم سيصمدون حتى انتهاء المهلة المحددة لهم للبقاء خارج منازلهم. وقد تدفع الظروف الجوية التي من المتوقع أن تسيطر على الأراضي الفلسطينية أولئك إلى البحث عن بدائل أخرى.

وقال التركمان: "وقد شارف النهار على نهايته ...لا نعرف ماذا نفعل".