تقرير: يامن نوباني

"كان الجنود يصابون بالهستيريا عندما يشمّون رائحة اللحم المشوي في جميع أنحاء بلدة بيت ساحور أثناء الحصار ومنع التجول"، شهادة إلياس رشماوي في حصار بيت ساحور صيف 1988.

"حضر الحاكم العسكري إلى المزرعة ولم يعثر على أية بقرة، فغضب بشدة، وبدا عليه الأمر كما لو أنه خسر ثمانية عشر من الإرهابيين. وتم تنظيم عملية بحث واسعة النطاق، شارك فيها مئات الجنود والطائرات العمودية بحثا عن الأبقار. لكن الأبقار كانت مخبأة في مكان ما، تمد أطفال بلدة بيت ساحور بالحليب خلال الانتفاضة". من شهادة جلال قمصية.

يسرد مازن قمصية في كتابه "المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ حافل بالأمل والإنجاز": صدر البيان الثالث في 18-1-1988 ودعا الى مقاطعة المنتجات الاسرائيلية التي توجد لها بدائل محلية واقترح مقاومة الضرائب.

وأضاف قمصية: وصل الأمر لدى الاحتلال إلى محاولة منع الزراعة المنزلية لتوفير الطعام عند حظر التجول. ولكن تم تطور وانتشار عدد لا يحصى من وسائل الاكتفاء الذاتي. اعتقل اسحق جاد وهو مدرس أحياء لمساعدته في تعزيز مهارات البستنة، وقد لخص فرانكل ذلك بالقول: "لقد كان جاد اسحق رجلا عمليا. وسرعان ما اكتشف العلاقة بين السياسة والمواد الغذائية. وفي كانون الثاني 1988 قام اسحق وزميله المهندس المدني عيسى الطويل بالذهاب إلى مدينة اريحا التي تعتبر المركز الزراعي او السلة الغذائية في الضفة الغربية. وعادا ومعهما 500 شتلة لتوزيعها على الجيران والأقارب. ثم عاد اسحق وجلب 2000 شتلة، وفي نهاية المطاف قام بتوزيع 40 ألف شتلة مع كيس من البذور والأسمدة والمبيدات والخراطيم المطاطية وأقفاص الدجاج المستعملة. وقام صديق بالتبرع بسقيفة وبعض المواد من أجل انشاء متجر صغير للبستنة. وقام اربعة عشر شخصا باستثمار ما مجموعه حوالي 18000 دولار لتجهيز المحل. وبحلول آذار كان اسحق والطويل وجراسموس خروب وهو معلم أحياء وزميل لهما يقومون بأعمال جدية على أرض الواقع وقاموا بشراء جرار صغير لتأجيره للحراثة.

قامت بلدتي بيت ساحور في شباط 1988 بالامتناع عن دفع الضرائب، كان الالتزام كاملا، ووجه هذا التمرد بحملة شرسة. أول حملة ضريبية بدأت في 7-7-1988 الساعة 4:30 فجرا، دخل جيش مدجج البلدة، تم اقتياد الناس من نومهم الى الخارج واعطاء أرباب الأسر فواتير تحتوي على مبالغ تعسفية، وطلب منهم أن يقوموا بدفعها خلال أسبوع. تجمع الناس أمام مبنى البلدية واتفقوا على تسليم بطاقاتهم الشخصية لسلطات الاحتلال.

تم جمع اكثر من 1000 بطاقة هوية لتسليمها، حضر الجيش الإسرائيلي وهدد البلدة، دعت البلدية الى اجتماع الساعة الرابعة عصرا، أخبر الموجودون أن الحاكم العسكري لا يريد التفاوض، وأمر الجنود الناس بالانصراف، وقام بالاعتقال واطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز ضد المواطنين. وفي منتصف الليل هدد بترحيل 50 من وجهاء البلدة، وجميع الناس الذين لا يحملون بطاقات هوية بحلول صباح اليوم التالي. أرجعت الهويات إلى أصحابها، لكن مقاومة الضرائب استمرت.

حصلت هجمة الضرائب الثانية في 19-9-1989، وذكر غسان أنضوني أن مركز المعلومات الفلسطيني لحقوق الانسان أصدرا تقريرا في 31 تشرين الأول 1989، جاء فيه: " منذ 19 أيلول 1989 وبيت ساحور محاصرة بالمئات من القوات الاسرائيلية، تم انشاء مجمع عسكري جديد بالقرب من حقل الرعاة لعمليات الاستجواب والتنفيذ السريع للأوامر العسكرية. وأصبح ما بدأ كحملة لفرض دفع الضرائب حملة عسكرية واسعة ضد السكان. هادفة الى تدمير اقتصاد البلدة وكسر العظام واعتقال الأطفال ونهب المحلات والمصانع والمنازل. وكانت السلطات غير قادرة على اجبار أي مواطن على التفاوض معهم أو حتى دفع مبالغ تافهة لاستعادة ممتلكاتهم. وفي بعض الحالات استولى الاحتلال على محتويات المنزل بالكامل تقريبا، ووضعت في شاحنات وأخذت الى البيع بالمزاد العلني. وتم قطع خطوط الهاتف ومنعت الصحافة والمجموعات المتضامنة من الدخول، خلال 42 يوما من الحصار اعتقل مئات المواطنين واستخدموا كرهائن، الافراج عنهم لا يتم الا بعد دفع الضرائب. صرح وزير الجيش آنذاك "اسحق رابين": نحن ذاهبون إلى هناك لتلقينهم درسا، ولن يلاحظ أي من القناصل، ولن يعقد فيصل الحسيني أية مؤتمرات صحفية. لن يكون هناك أية محاولة لعدم دفع الضرائب، حتى لو استغرق ذلك شهرا، سوف ينهارون في نهاية المطاف، ولن نسمح لهذا النوع من العصيان المدني أن ينجح، وينبغي أن نقول لهم: انسوا ذلك حتى لو استمر حظر التجول على بلدة بيت ساحور لمدة شهرين.

وتشكّل تجربة بلدة بيت ساحور في الانتفاضة نموذجًا شبه متكامل لإجراءات الانتفاضة الاقتصاديّة التي اتّبعها الفلسطينيّون في انتفاضة 1987. فإلى جانب العمل على تحقيق اكتفاء زراعيّ وإنتاجيّ، امتنع الأهالي في شباط 1988 عن دفع الضّرائب وكان الالتزام تامًا، ما دفع جيش الاحتلال بعد خمسة شهور إلى اتّخاذ إجراءات عقابيّة عبر فرض غرامات وفواتير مضاعفة على الأهالي.

ويروي إلياس رشماوي، أحد الأشخاص الذين شاركوا في الامتناع عن دفع الضرائب، إنّ اللجان الزراعيّة اهتمّت بزراعة الخضراوات التي تحتاج البلدة إليها في كلّ قطعة أرض حول كلّ منزل، وبتربية الأرانب والدّجاج لتأمين اللحوم حتّى في ظلّ حظر التّجوّل.

"كان الجنود يصابون بالهستيريا عندما يشمّون رائحة اللحم المشوي في جميع أنحاء بلدة بيت ساحور أثناء الحصار ومنع التجول"، يقول رشماوي.

وفي إحدى محاولات الاحتلال الخبيثة، دخل جابي الضرائب أحد المنازل ووجد طفلا في السادسة من عمره يشاهد الرسوم المتحركة، فطلب من والده دفع مئة شيقل ليستمر الطفل في مشاهدة التلفاز، لم يستجب الأب، فخفف الجابي المبلغ إلى 50شيقل، فرفض الأب ثانية. في النهاية طالبه بدفع شيقل واحد فقط! رفض الأب وصودر التلفاز من أمام عينيّ الطفل.

حليب الانتفاضة..

حاولت قوات الاحتلال منع تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي وصل إليه الأهالي، يروي جلال قمصية: كنا متأكدين من أنه سيكون من المستحيل الحصول على ترخيص لمشروع تعاوني جديد مثل قيام مشروع مزرعة الألبان في ظل القانون العسكري للاحتلال. قام البعض بتقديم طلبات عدة مرات لمشاريع محلية مماثلة، ولكن جهودهم كانت تذهب أدراج الرياح. ولذلك جازفنا بحياتنا وذهبنا إلى كيبوتس اسرائيلي وقمنا بشراء ثمانية عشر بقرة، وقمنا بنقلها إلى مكان خاص بالقرب من البلدة. ولكن الحاكم العسكري وموظفو بيت شان وضباط الادارة المدنية والكثير من الجنود، قاموا بمحاصرة المزرعة، والتقطوا صورا لكل بقرة وأعطوا أرقاما تعريفية لها. وبعد ذلك أعطونا أمرا عسكريا يقضي بإغلاق المزرعة في غضون أربع وعشرين ساعة، وإلا فإن الحاكم العسكري سيأمر بتسوية المكان بالجرافات..

ويكمل قمصية: لم يكن أمامنا سوى الذهاب في ساعة متأخرة من الليل ونقل الأبقار سرا، وفي صباح اليوم التالي حضر الحاكم العسكري إلى المزرعة ولم يعثر على أية بقرة، فغضب بشدة، وبدا عليه الأمر كما لو أنه خسر ثمانية عشر من الإرهابيين. وتم تنظيم عملية بحث واسعة النطاق، شارك فيها مئات الجنود والطائرات العمودية بحثا عن الأبقار. لكن الأبقار كانت مخبأة في مكان ما، تمد أطفال بلدة بيت ساحور بالحليب خلال الانتفاضة.

الفنان والمخرج الفلسطيني عامر الشوملي، المولود في الكويت عام 1981 أنتج فيلما وثائقيا عن تجربة بيت ساحور في العصيان المدني، وأطلق على الفيلم اسم "المطلوبون الـ18" والذي عرض في عشرات المدن والعواصم والمناسبات، ومن انجازاته: عرض لأول مرة في مهرجان تورنتو السينمائي في سبتمبر/أيلول 2014، وحاز على جائزة مهرجان أبو ظبي لأفضل فيلم وثائقي، وكذلك على الجائزة نفسها بمهرجان أيام قرطاج، وتم ترشيحه ليمثل فلسطين عن فئة الفيلم الأجنبي للأوسكار للدورة 88 عام 2016.