أُسدِل الستار في 11 تشرين ثاني/ نوفمبر 1918 على الحرب العالمية الأولى بعد أن أزهقت أرواحًا أكثر من عشرين مليونًا من بني الإنسان، ولم يكن اغتيال ولي عهد إمبراطورية النمسا- المجر وزوجته في البوسنة/ سراييفو في 28 حزيران / يونيو 1914 سوى القشة، التي قصمت ظهر البعير، وفتحت هوة الحرب العالمية الأولى بعد شهر بالتمام أي في 28 تموز/ يوليو من ذات العام، لا سيما أنّ الصراع بين الأقطاب الرأسمالية على تقاسم النفوذ في العالم، والأزمات الاقتصادية العميقة داخل تلك الدول كان الأساس لنشوب الحرب الكارثية. كما أنَّ تلك الحرب شهدت واحدة من أهم المؤامرات (سايكس بيكو 1916) في التاريخ الحديث على وحدة شعوب الأمة العربية، وشكَّلت الركيزة لوعد بلفور المشؤوم (الثاني من نوفمبر 1917)، وهو ما يكشف للقاصي والداني أنّ الرأسماليين لا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم وخوض الحروب دفاعا عن مصالحهم وأرباحهم دون وازع إنساني أو أخلاقي أو سياسي. وما القيم التي تنادي بها مثل: الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب سوى أدوات للتضليل وخداع الرأي العام العالمي.

ومع حلول المئوية الأولى لتلك الحرب قبل أيام، نلحظ أن العالم اليوم يقف على شفا هاوية جديدة، إن لم يتم تداركها فإن الكرة الأرضية مقبلة على كارثة عالمية أشد فتكًا وتدميرًا للبشرية جمعاء، خاصة أن التطور الهائل للأسلحة النووية والهيدروجينية وغيرها من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية سيؤدي لما سبق ذكره، ويهدد مستقبل البشرية برمتها.

وتتمظهر الصورة السوداوية مع صعود قوى اليمين القومي في أميركا خصوصا وأوروبا عموما، الذي أخذ يضخ سمومه القاتلة من خلال ما ينتجه من منظومات فكرية وسياسية متخلفة ورجعية، تعمل على تهديد نسيج تلك الأمم، وتعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي السياسية داخل كل دولة على انفراد وعلى الصعيد الكوني. ويمكن لكل مراقب أن يرى بأم عينه ما تحمله تلك الشوفينية القومية من انعكاسات خطيرة على مستقبل دول وشعوب العالم كله.

كما تزداد الأزمة العالمية سعارًا مع استباحة المنظمة الأممية الأولى في العالم من قبل أميركا ترامب، وتغييب مصالح وحقوق الأقطاب الأخرى، فضلا عن الشعوب الضعيفة والتابعة، التي تجري الحرب العالمية الثالثة بالوكالة على أراضيها منذ مطلع العقد الثاني للألفية الثالثة خاصة في الوطن العربي. وتتعمق تلك الأزمة العالمية نتاج الإصرار الأميركي على التفرد بالقرار الأممي، ومحاصرة الأقطاب المناظرة والمنافسة لها في الحصول على حصتها من كعكة العالم، وفي المزاحمة على الجلوس في مقعد الشراكة على قيادة الكرة الأرضية، وترفض الاستسلام لحقيقة تراجع مكانتها العالمية.

هذا وتلعب دولة الاستعمار الإسرائيلية دورًا استثنائيّا في تأجيج نيران الحروب في فلسطين والعالم العربي وإقليم الشرق الأوسط الكبير، لا سيما وأنها شريك استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في عملية العبث التراجيدية الجارية في العديد من مناطق الصراع الإقليمية والدولية. ومن يراقب سياسات وانتهاكات وإعلانات إسرائيل المارقة في وسائل الإعلام الأميركية مؤخرا، يرى أنها عادت إلى الدعوة للسيطرة على كامل الوطن العربي، وليس من النيل للفرات فقط، شعار الحركة الصهيونية التاريخي. بعد أن أقرت "القانون الأساس القومية" في تموز/ يوليو 2018، الذي يهدف للسيطرة الكاملة على كل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وتصفية خيار السلام بشكل نهائي، والذي جاء متناسقًا ومترادفًا مع الشروع بتنفيذ صفقة القرن الأميركية، خاصة وأن الشرط العربي المتهالك والغارق في متاهة التبعية والاستحواذ للإدارة الأميركية، والراكض في دوامة التطبيع المجانية مع إسرائيل الاستعمارية يسمح لها بالذهاب لما هو أبعد من السيطرة على الوطن العربي، إلى التسيّد على إقليم الشرق الأوسط الكبير.

وهو ما يؤكد أنّ المخطط الأميركي الإسرائيلي في إقامة الشرق الأوسط الجديد لم ينته، ولم تستسلم إدارة ترامب وشريكتها حكومة نتنياهو لمشيئة الشعوب العربية الرافضة له، بل مازالت تدور الزوايا، وتعيد النظر في سيناريوهاتها لبلوغ هدفها الاستراتيجي. وهذا الهدف لا يقتصر في تداعياته عند حدود الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط بما فيه تركيا وإيران وباكستان، لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بمصالح روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والصين والهند وبالضرورة أميركا اللاتينية غير البعيدة عن دائرة الصراع مع أميركا، ما يشير إلى صعوبة بلوغ الهدف، لأنه يحتاج إلى تنازلات سياسية لصالح الأقطاب الأخرى، ما يضاعف من حدة التعقيدات والعقبات، التي تقف في وجه المخطط. ويزيد من شدة الأخطار الملازمة له، ويحمل في ثناياه تهديداً للسلم والأمن الإقليمي والعالمي على حد سواء.

لذا تملي الحاجة والضرورة الإنسانية تكاتف جهود شعوب وأمم العالم، التي عانت من ويلات الحروب العالمية، الوقوف صفا واحدا لصد الهجمة الأميركية الإسرائيلية ومن يقف معهم من قوى اليمين المتطرف في أوروبا. وهو ما يدعو أيضا القوى الحية في العالم العربي إلى استعادة حيويتها ودورها الريادي للدفاع عن ذاتها وشعوبها والعالم ككل. وتجديد كفاحها للارتقاء بالمشروع القومي النهضوي العربي، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، كقضية مركزية للعرب، وبناء ركائز السلام الممكن والمقبول في فلسطين والإقليم ككل.