اليوم تحل الذكرى الثلاثون لإعلان الاستقلال الفلسطيني، الذي كان فصلا مهما في مسيرة الوعد الأبدي لشعب الجبارين، وكانعكاس لولادة طائر الفينيق الناهض من لعنة الموت والحصار والاجتياح، والمحلق صعوداً إلى لحظة الجلجلة في الانتفاضة الكبرى 1987/1993، حيث عانقت القضية ذرى السماء بعد أن كاد "المتأمرون" من معسكر الأعداء تدوين شهادة الوفاة لها، غير ان خروج المارد الفلسطيني حاملا سيف البقاء والوفاء للتاريخ ولمجد الأباء والأجداد أسقط من يدهم الصفحة السوداء، وتماهى مع طموحات وأحلام والجماهير الفلسطينية وخط بالأحمر القاني الوثيقة الناصعة حاملة اليقين الفلسطيني لولادة الدولة الموعودة ولو بعد حين. كان الإعلان مجردا وبعيدا عن الواقع، تفصله مسافة كبيرة، رغم ان الراية مرفوعة وخفاقة في ثرى الوطن. لكنه بما حمل من معاني ودلالات سياسية وقانونية حقوقية واقتصادية وثقافية واجتماعية تجلى في لحظة استثنائية من التراجيديا الفلسطينية عندما تعانق فيها الحلم والطموح مع الرغبة بتجسيد فكرة الاستقلال على ثرى أرض الوطن السليب والمثقل بلعنة بلفور وكامبل وهيرتزل وبن غوريون ووايزمان وجابوتنيسكي وترامب.

عبقرية الوطنية الفلسطينية تكمن في استثنائيتها، وفي كونها لحظة فريدة من لحظات الأسطورة العالمية، ولأنها جمعت بين كل المتناقضات والمتعاكسات، الحقيقة والخيال، التجريد والملموس، الشكلاني والجوهري، بين الثورة وحلم الدولة، بين الموروث الحضاري الكنعاني والألياذة الإغريقية، بين صاحب الأرض والوجود الأصلاني في عمق التاريخ، المتصارع مع الحملات الاستعمارية المتوالية في الحقب الزمانية البائدة، والماسك بناصية الرواية يخط فصولها فصلا فصلا، مدونا بحروف من ذهب صفحات الانتصار للبقاء وفناء العابرين والمارين.

تتعاظم الأسطورة الفلسطينية العربية مجددا بتراجيديا سوداء تتشابه وتختلف عما استنبطته الحملات البائدة في الأزمان الغابرة، مع قيام اباطرة المال بتخليق لص مارق بفعل ولادة شيطانية اشبه بعمليات التهجين الحديثة من مركبات جينية مختلفة، واصدروا له شهادة ولادة واسما، وأورثوه رواية مزورة، ونقلوه على السفن ليحط على الأرض العظيمة ليلوثها بمزامير وأسفار وثرثرات محكومة بكيفية نهب الميراث التاريخي، وسرقة ما على الأرض وما تحتها، ودق أسفين بين الأشقاء في الوطن الكبير، وتمزيق وحدتهم، وتحويلهم لقبائل وعشائر وطوائف وأصحاب مذاهب وهويات ملفقة وقزمية، ليسهل ترويضهم وتبيعتهم لصاحب الأمر والنهي في أرض العم سام.

التراجيديا الفلسطينية منذ وعد بلفور المشؤوم تزداد قتامة مع كل فصل جديد في مسيرة الصراع مع الكائن العجيب، المدعوم من قوى العدوان وخصية القوم، وبؤس الدراويش من الإخوان والزناديق، وسقوط العديد من الأشقاء في متاهة العبيد، والتسبيح بمجد اللص البغيض. وكلما اشتدت حلقات الموت، واتسعت مقاصل الإعدام، وسفح الدم الأحمر القاني من الشريان والوريد الفلسطيني، وأغلقت منافذ الطريق، وأغلق النفق، وتلاشى فيه الضوء ولو من بعيد، كلما كانت شمعة إعلان الاستقلال تضيء الدرب، وتعيد الفلسطيني الكنعاني العربي إلى التحليق من جديد كطائر الفينيق، يصعد من رماد اللحظة لينطلق لفضاء الوعد والهدف المجيد.

إعلان الاستقلال هو النبوءة الفلسطينية، لأنه يقترن بالرواية والحقيقة والتاريخ والشعب العملاق المفولذ، والمقترن بكفاح عظيم ومديد، ومرتبط بنهر من دماء الشهداء والجرحى وعذابات أسرى الحرية. وهو على ما حمله من معاني ودلالات نظرية وسياسية وقانونية، فإنه كان شهادة ميلاد الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وهو شعلة الثورة والكيان الوليد، ومفتاح الدروب لبلوغ مجد التحرير، وانبثاق فصل جديد في رحلة الشعب الفريد، صاحب الأسطورة في العصر الجديد، وسقوط اللص المارق في مزابل التاريخ، ومستنقع بابل السحيق.