بإمكانك أن تقول فيه الكثير، فمحبيهِ كُثُر، وخصومه أكثر، وأعداؤه يكرهونه ويهابونه في آن واحد، ويتمنون له الموت .

حين تصفه باللطف والرحابة والقدرة على التعامل مع المتناقضات وسعة الأفق، وإتقانه فن الإصغاء، وتحمل أذى البعيد والقريب قد تكون مصيبا.

وحين تصفه بضيق الصدر والقسوة وإدارة الظهر للآخرين، وإلحاق الأذى بهم -كما يحسّون- قد تكون مصيبة.

كل شخص ينظر إليه بعين طبعه، فمن يحبّه ويعتنق سياسته يراه أيقونة يضعها بجوار صورة القديس ابراميوس، ومن يبغضه يتمنى أن يقضي رميا بالسهام.

بدأ عهده بتطليق ما سبقه من سياسة، فاستنّ للنضال منهجا جديدا رفض فيه "العسكرة" بإباء، وقد نتفق أو نختلف هنا، لكنه جعل الجماهيرية في برنامجه الانتخابي شرطا فهاجموه ١٢ عاما، ثم صاروا يتسابقون على تبنى برنامجه بالمقاومة الشعبية.

يتبنّون اليوم برنامجه كأنهم من اخترعه للتو! وهم كانوا يكايدون الراحل الخالد عرفات برفض وقف إطلاق الصواريخ حتى دخول تل أبيب رافعين سنجق السلطان سليم الأول، إلى أن صارت عندهم اليوم صواريخا عبثية وغير وطنية وتستحق قطع الأرجل.

من كَرِه الرجل وسَمَه بالاستبداد، وأدانوه إلى حد التقيوء بكلامهم الصخّاب لأنه لم يحمل سيفا أبدا ورفع عوضا عنه غصن الزيتون الذي منح فلسطين صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة.واتهموه بالتفريط في فلسطين وهو يؤكد يوميا على أرض فلسطين رافضا بلفور الأول والثاني، أفلا يفقهون!

ومنهم من يراه قاطع أرزاق! وهم يجبون الإتاوات والضرائب بلا حسيب ولا رقيب، ولكن لم يستطع أحد من خصومه أو أعدائه أن يصمه بأنه قاطع طريق، وهم كانوا كذلك، وقد يستمرون.

تحتار مراكز الدراسات في توصيف قدرته على الترويض، سلبا أو إيجابا، والتي بذّ وفاق فيها سلفه.

قدرته على الترويض فاقت الحد، اتسعت مساحتها حتى طالت أطر تنظيمه القيادية الثلاثة.

أنقول لضعف فيها أم لسطوة فيه؟ فكان نهج الاستشارة هو السمة، وعلى نمط "الإخوان المسلمين" بالشورى المُعلِمَة وليست المُلزِمة، رغم أنهم لا يكنّون له المودة أبدا.

أُسقِطت عصا الترويض على الدائرة الأوسع من تنظيمه فشملتها، رغم ضعف الكيان وهشاشة المكان وتعملق أعداء كنعان، وخروقات الزمان.

هكذا يراه خصومه ديكتاتورا متفردا لا يشارك غيره بالقرار،ألم يكن عرفات قائدا متنفذا كما وصفته المعارضة؟

يراه خصومه وبعض زملائه لا يلتزم باتفاقيات أو قرارات، فيما هم يتفلّتون من كل أو بعض الالتزامات،وربما يمارسون ذات الأمر في دوائرهم، ويتصرفون ك"نبلاء" القرون الوسطى في أوربا باقطاعياتهم ، وكأن الانسان لا يرى عيوبه ويرى بخصمه كل المعايب فيتوه ويخطيء.

إن كان مستبدا أو رجل سلام نزع بدلة الخالد ياسر عرفات الخضراء وأحاط عنقه ومن حوله بربطات العنق، فهو لم يتخلّ أبدا عن حلم الثورة والدولة والقدس.

ومهما انشغلوا بتصريح مسيّس ومقصود ومحدود له هنا وهناك، فإنهم سرعان ما تصدمهم المفاجأة حين يعتلي المنبر بشموخ الإمام علي فيمدح ويهجو، ويقول ما لم يتوقعوه، وما يسبقهم فيه بالأميال فيُبهتون، ولا يجدون بدا من الاتهام بالكذب والخديعة.

قد لا يعجبك نوع العطر الذي يستعمله وقد لا تروق لك بدلته، ولربما لا تعجبك كشرته التي تفوق ابتسامته، فلكلّ من اسمه الأول والأخير نصيب.

ولكنك قطعا تكنّ له الاحترام الشديد حتى لو خالفته،ولي ولك ذلك أي أن نخالفه في موقف ونتفق في آخر، فكيف بمن ظاهره كباطنه!

أفقدَ الاخ محمود عباس السياسة أحدَ أهم مبادئها بأن يكون لك من الألسن العديد، وفي حدها الأدنى لسانين، فهو امتلك لسانا واحدا، ويا للعجب، فصدم العالم ووضع روحه بين يديه ولم يبالي.

قد لا يفيه أعداؤه حقّه من الاتهامات المكرورة، والتي تصل فيهم للخروج عن النص وطنيا وأخلاقيا ودينيا، وقد يغالي فيه مناصروه بالمديح حد السيولة.

ولكن لا يمكن لكإلا أن تنزع عقالك احتراما له، مع كثير من المحبة، أو البغض بعين الحسد، فالاحترام يبقى بالحالتين، إلا لمن كان سيء النفس والطويّة يحتقر ذاته فيحتقر غيره .

رغم كل ما سبق، بدا الرجل صامدا كالطود في الزمان الذي طاشت فيه أحلام الرجال، وسقطت فيه أخلاق الفرسان وذابت فيه قيم النبالة.

فكان الوحيد في الأمة،نعم هو كذلك،لا تتردد بذكر الحقيقة ولا تشح بوجهك عني،فهو الوحيد الذي رفع الراية الصفراء راية صلاح الدين الأيوبي في وجه أعتى امبراطورية على وجه الأرض اليوم، وقال لهم لأكثر من عشرين مرة "لا"، وهم زاغت فيهم العيون، والتفت فيهم الساق بالساق، وتراهم سكارى وما هم بسكارى.