خاص مجلة القدس| العدد 349 لشهر آب 2018

أصدر الكنيست الاسرائيلي قانوناً جديداً في 19/7/2018 يكرس اسرائيل "دولة قومية للشعب اليهودي" بحسب العبارات التي استعملها ذلك القانون، وهذا يعني أن اليهودية ليست ديناً فحسب، بل قومية أيضاً. وهذا هو جوهر الصهيونية الأصلية التي أرادت تحويل اليهود من جماعة دينية إلى أمة. فاليهودية القديمة كانت تقوم على تقديس الشتات (الدياسبورا) لأن النبي ابراهيم بحسب معتقدات اليهود اكتشف الله في الشتات، ولأن يعقوب أنجب الأسباط في الشتات، وتحول الأسباط هؤلاء إلى شعب في الشتات أيضاً، وحتى ألواح الوصايا نزلت على النبي موسى في التيه، أي في الشتات، وكذلك صيغت نصوص التوراة أو منحت لهم في الشتات. أما الصهيونية فهي خلاف ذلك، إذ إنها حركة سياسية تقوم على نفي الشتات وتجميع اليهود في بوتقه صهر واحدة. وقد تمكن الصهيونيون من ذلك في سنة 1948، فصار لهم، بقوة الاستعمار البريطاني، دولة وجيش ولغة. والقانون الجديد ينص، من بين ما ينص عليه، على "حق تقرير المصير للشعب اليهودي في أرض اسرائيل". ولعل هذه العبارة هي أخطر ما في القانون؛ فأرض اسرائيل، بحسب التصورات السياسية والدينية اليهودية، تشمل الضفة الغربية كلها، الأمر الذي يعني إطلاق الاستيطان في كل مكان من الأراضي الفلسطينية الباقية. وكان بنيامين نتنياهو قد أوضح في أثناء مناقشة ذلك القانون "أن اليهود هم وحدهم أصحاب الحقوق القومية (...)، وإن اسرائيل تضمن المساواة في الحقوق الشخصية لكل مواطن، غير أن الحقوق القومية فيها مضمونة للشعب اليهودي وحده". وهو ما يعني سلب الحقوق التي نالها فلسطينيو 1948 بصمودهم ونضالهم طوال سبعين سنة.

ضدان لا يجتمعان: الديمقراطية واليهودية
عملت الصهيونية على ترويج المزاعم القائلة إن إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية في آن. ووردت عبارة "الدولة اليهودية" خمس مرات صريحة في وثيقة تأسيس إسرائيل التي أذاعها دافيد بن غوريون مساء 14/5/1948. ولم تكن اسرائيل تحتاج إلى تعريف نفسها دولة يهودية لأنها كانت دولة يهودية بالفعل، لكن مؤسسي إسرائيل كثيراً ما ارتعدوا من الديمقراطية مع وجود الفلسطينيين في النطاق الذي منحهم إياه قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29/11/1947. وكان من المحال أن تبقى اسرائيل يهودية بوجود الفلسطينيين. لذلك جرى طرد 80% من السكان العرب إلى خارج حدود فلسطين الانتدابية، فحققت إسرائيل بذلك الأكثرية اليهودية، وصار في إمكانها الادعاء أنها دولة يهودية وديمقراطية معاً.
ليست اسرائيل دولة متعددة القوميات كي تكون ديمقراطيتها ديمقراطية توافقية بين المجموعات القومية المؤلفة لها، وإنما هي دولة لليهود. أما الفلسطينيون فليسوا أقلية قومية، من وجهة نظرها، بل هم أقلية غير معترف بها أساساً، إذ يتم تعريف الفلسطينيين على أنهم "غير يهود"، فيتم نزع الصفة القومية عنهم. كما أن إسرائيل لم تعلن نفسها دولة يهودية في الحقبة الأخيرة فحسب، بل أعلنت ذلك منذ قيامها في سنة 1948. والجديد في الأمر أنها راحت تطالب الفلسطينيين بالاعتراف بها دولة يهودية كشرط لأي تسوية مقبلة. وهكذا انتقلت إسرائيل من شرط الاعتراف بها سياسياً إلى شرط الاعتراف بها دولة يهودية.
إسرائيل بمطالبتها الدائمة بالاعتراف بها دولة يهودية تفصح عن خشية مركبة: خشية من أن ينتقل الفلسطينيون في أراضي 1948 من المطالبة بدولة لجميع مواطنيها اليوم، إلى استخدام العنف في المستقبل للمطالبة بحقوق قومية متساوية، ولا سيما أن عدد اليهود في فلسطين سيصل، بحسب التوقعات الديمغرافية، إلى نحو 8 ملايين نسمة في سنة 2030، وسيصل عدد الفلسطينيين إلى نحو عشرة ملايين في فلسطين التاريخية. أما فلسطينيو 1948 فمن المتوقع أن يصل عددهم في سنة 2030 إلى نحو 2,4 مليون نسمة، أي إلى نحو 30% من سكان اسرائيل، وهذا أمر يخيف راسمي السياسات الإسرائيلية المستقبلية. وأبعد من ذلك، فقد كشف يغئيل عمير، وهو الذي اغتال يتسحاق رابين، أن دافعه للاغتيال هو أن رابين ما كان يستطيع تمرير اتفاق أوسلو في الكنيست لولا أصوات النواب العرب. وهذا يؤكد أن مصير إسرائيل ما عاد في أيدي اليهود وحدهم، بل صار الفلسطينيون شركاء فيه. وتكشف هذه البلبلة في الأوساط الأكثر تطرفاً في اسرائيل اضطراباً متزايداً في الهوية الاسرائيلية وانقساماًجدياً في مكوناتها. فالبعض يعتقد، بقوة، أن اليهودية خطر على اسرائيل، والدليل حادث اغتيال رابين الذي نفذه يهودي متطرف؛ وهذه وجهة نظر العَلمانيين. بينما يعتقد كثيرون أن اسرائيل خطر على اليهودية؛ وهذه وجهة نظر بعض الجماعات الحريدية المعادية للصهيونية أمثال "ناطوري كارتا"، أو أمثال يسرائيل شاحاك وأبراهام بورغ.
في معمعان هذه المجادلات الحامية، دأبت الأحزاب اليمينية على التقدم من الكنيست بمشروعات قوانين أساس (القوانين الأساس تحل محل الدستور لأن إسرائيل لا دستور لها) من شأنها ترسيخ فكرة يهودية الدولة. وفي هذا السياق أقرَّ الكنيست، على الرغم من اعتراض النواب العرب وبعض النواب اليهود، قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل في 12/5/2002. ويمنع هذا القانون لم شمل أي عائلة إذا كان أحد أفرادها فلسطينياً، ويمنع أيضاً منح الجنسية الإسرائيلية لمن يتزوج إسرائيلية أو إسرائيلي إذا كان من أصل فلسطيني أو من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة. أي أن الفلسطينيين من سكان مناطق 1948 الذين تزوجوا فلسطينيات من الضفة الغربية سيعيشون، بموجب هذا القانون، منفصلين عن زوجاتهم. وفي 11/10/2010 أقرَّ الكنيست قانون "المواطنة والولاء" الذي يلزم كل طالب جنسية أداء قسم الولاء لإسرائيل كدولة يهودية. وهذا القانون سيكون مقدمة لسلسلة من الإجراءات التي تمنح السلطات الاسرائيلية القدرة على الادعاء بعدم ولاء المواطنين الفلسطينيين لدولة إسرائيل. وحينذاك سيكون في إمكان هذه السلطات سحب الجنسية منهم. وفي 23/11/2014 صدّقت الحكومة الإسرائيلية ثلاثة مشروعات قوانين أساس تحت عنوان "الدولة القومية للشعب اليهودي" وأحالتها على الكنيست. وهذه القوانين العنصرية تحاول تزوير الرواية التاريخية الفلسطينية عن النكبة، الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء الوجود القومي للفلسطينيين في أرضهم التاريخية، وتهدف، فوق ذلك، إلى تعزيز الطابع اليهودي لإسرائيل كدولة يهودية.

القانون الجديد ومخاطره
لا شيء جديداً في هذا القانون، إلا أنه تجميع لعدد من القوانين العنصرية التي دأبت اسرائيل على إصدارها منذ قيامها في 14/5/1948 مثل قانون أملاك الغائبين وقانون العودة لليهود. وحتى قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947 (الرقم 181) ينص على قيام دولة لليهود، وكذلك تنص "وثيقة الاستقلال" على قيام دولة يهودية. ويمكن أن نضيف إلى ذلك قانون الأموال المتروكة (1948) وقانون أموال الغائبين (1950). وبموجب قانون أموال الغائبين وحده صودرت أملاك الفلسطينيين والعرب في نحو 300 قرية (3,25 ملايين دونم)، علاوة على مصادرة 25 ألف مبنى في المدن، ونحو 11 ألف محل تجاري. وكان من شأن إسكان اليهود في منازل الفلسطينيين أن مشهد المكان الفلسطيني تغير كلياً، وحلّت المجمعات اليهودية في محل مئات القرى الفلسطينية، واستحوذت على أسمائها التي راحت تهودها كما يحلو لها، فصارت قرية نورس العربية على سبيل المثال تدعى "نوريت"، وعين حوض صارت "عين هود" وطلحة صارت "تل حي" وسعسع صارت "ساسا" والشجرة باتت "سجيرا"... وهكذا. وفي نهاية عملية مصادرة المكان والاستحواذ على الأسماء وتهويدها، بات الفلسطينيون الذين كانوا هم سكان الأرض الأصليين 20% فقط من سكان الدولة الكولونيالية الجديدة، ولم يبقَ في حوزتهم إلا 3,5% من مساحة فلسطين.

الأهداف البعيدة
تهدف إسرائيل على المدى البعيد، إلى خفض نسبة الفلسطينيين إلى مجموع السكان من 18% كما هي الحال اليوم إلى 10% أو أقل، الأمر الذي يحول دون تحوُّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية. وحتى ذلك الوقت يصر اليمين الصهيوني على اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة وإعلان الولاء لها. والرد الفلسطيني كان دائماً هو هو: إن ولاء الفلسطينيين في مناطق 1948 هو لشعبهم وليس للدولة التي تحكمهم. غير أن إسرائيل تخفي أهدافاً أبعد جراء هذا الإصرار؛ فالاعتراف بيهودية الدولة يعني الاعتراف بالصهيونية وبالرواية الصهيونية عن احتلال فلسطين، ما يؤدي إلى الاعتراف بحق اليهود في فلسطين، وكأن الفلسطينيين والعرب كانوا طوال الصراع العربي – الصهيوني، معتدين على اليهود.
مهما يكن الأمر، فإن الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية سيجر بالتدريج إلى التنازل عن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي هُجِّروا منها في سنة 1948، ويسقط القرار 194 (11/12/1948). وبناء عليه ستصبح حقوق الفلسطينيين في مناطق 1948 في مهب الرياح؛ فحتى لو أصبح هؤلاء في يوم من الأيام نصف سكان إسرائيل فلن يكون لهم، بموجب الاعتراف بيهودية إسرائيل، أي حقوق قومية البتة.