خاص- مجلة "القدس" العدد 347 ايار 2018
بقلم: خالد غنام أبو عدنان

لا هويّةْ، إنّما تِلكَ القضيةُ، لا قضيّةْ، نحنُ في القانونِ، غابٌ، رُبَّما والهوشليّةْ، لا هويةْ، كُلُّ ما في الأمرِ، أنّي قاتِلٌ، لي بُندقيّةْ، كانتِ الأوطانُ، تُبنى، بينما وطني، ضحيّةْ، لا هويّةْ، كيف لا أبكي
عليهِ، ماتَ في الشَمسِ، ونادى، اتركوا الأوطانَ، “حيّةْ”. الشاعر العربي اليمني حسام الشراعي.
يحملون أوطانهم أينما ذهبوا رغم سقوط صفة مواطن عنهم، فينعتهم الآخرون باللاجئين ويسكنونهم على حدود المكان، فلا يستوطنون ولا يتوطنون إلا بمخيمات مؤقتة، وتبقى مؤقتة حتى إشعار آخر. جيل آخر يولد بلا هوية في مخيمات اللجوء أو مهاجر قسرية وأخرى طوعية دون أن يتم تغيير جينات الوطنية بداخلهم، فهم ليسوا مواطنين ولو حملوا ألف جنسية غير جنسية وطنهم الأصلي، كلها أوراق مؤقتة لإقامة شرعية في مدينة ما، أو للسماح لهم بالتنقل بين مدن العالم بوثيقة سفر وجنسية مؤقتة.
فلقد تقاسم الكبار حصصهم من اللاجئين فهناك دول إعادة التوطنين تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية ومنها أيضا كندا واستراليا ونيوزلندا، وهناك دول اللجوء الدائم وتتزعمهم بريطانيا ومنها أيضا فرنسا وألمانيا، وهناك دول الفرز الوسيط مثل المغرب وتركيا وأوغندا وباكستان، وهي تسمح بدخول اللاجئ الذي يسعى للاننقال لبلد ثالث.
تشابك حوارات المخيمات والملاجئ والمستوطنات لتصنع علامات استفهام كبرى مثل انتفاضة العرب في فرنسا وأن فرنسا ستتحول إلى دولة إسلامية خلال عشر سنوات، وأن عدد من يتحدثون العربية في ألمانيا يفوق عددهم في بعض الدول العربية، وأن معدل زيادة عدد المساجد في السويد أعلى من أغلب الدول العربية. وأن عرب بريطانيا يفضلون الزواج من أوطانهم الأصلية رغم كل التعقيدات القانونية.
أما اللاجئون العرب في بلاد العرب فهم بالتأكيد في خطر دائم لانعدام الخطط الاستيعابية للاجئين وارتفاع العصبيات الطائفية والقبلية والسياسية، فلا يمكن حصر عدد اللاجئين الليبيين في الجزائر أو السوريين في لبنان أو العراقيين في الكويت أو الصوماليين في اليمن. فهم بلا قيادة سياسية بل أنهم ممنوعون من العمل بشيء لا يتوافق وسياسة البلد المضيف، نعم فهم ضيوف غرباء، حتى لو سكنوا مائة عام.
اللاجئ هو الغريب عن المجتمع المتهم بكل شيء تخريبي من التحالف مع أعداء الوطن وإلى تدمير الدين المحلي وأيضا إفساد القيم الاجتماعية وكذلك زرع الفتن بين صفوف الشعب، وهو العنيف الغبي المتهور فاقد الأخلاق والدين والديوث المرابي قطاع الطرق وأكثر من هذا فإن قتله واجب وطني ديني وأخلاقي، هذا الخطاب العنصري لمعظم الجماعات الأوروبية المتعصبة، وهي تحظى بشعبية متزايدة لربطها بين سلوك اللاجئين الغريب على المجتمع والأزمة المالية المعروفة بعولمة اقتصاد البالون.
من جانب آخر فإن الشرق لا يقل قسوة عن الغرب في التعامل مع اللاجئين رغم أنهم دخلوا البلاد المضيفة ضمن قرار سياسي مثل دخول شيعة هازارا الافغان وجنوب العراق للأراضي الإيرانية، فقد رفضهم المجتمع لدرجة أنهم لا يجدون وظائف لهم ولا زواجاً مختلطاً، كما أن شيعة المنطقة الشرقية بالسعودية مهددون بسحب الجنسية إذا ثبت تعاونهم مع المرجعيات الدينية الإيرانية، وفي جنوب الهند فإن قبائل التاميل ترفض إقامة مخيمات في أراضيهم لتاميل شمال سيريلانكا، وهو نفس الأمر بالنسبة لقبائل جوا في أثيوبيا عندما رفضت إقامة مخيمات لأبناء قبيلتهم الهاربين من الحرب الأهلية الصومالية.
وفي دراسة مجموعة أوراق قدمت للمؤتمر الماركسي ٢٠١٨ في مدينة ملبورن الاسترالية في نهاية شهر مارس الفائت، فقد تم دراسة مجموعة أوراق خاصة باللاجئين منها ورقة انتقال فلسطينيي مخيم اليرموك الكائن في سوريا إلى مخيمي برج البراجنة ونهر البارد في لبنان، وكذلك ورقة مراكز الإيواء لأقلية نوهورينكا في بنغلادش وماليزيا وورقة عن مخيمات الإدخال الأولي في ألمانيا وسويد وورقة عن أوضاع الليبيين في الجزائر.
وفي جميع الحلقات الدراسية ثبت أن اللاجئ حديث العهد في قوانين البلد المضيف يسعى للتمرد المطلق على كل القوانين بما فيها قانونه الأسري ومعتقده الديني، فمسألة الرقابة المجتمعية معدومة، وأنه متهم بالفساد حتى قبل أن يدخل البلد المضيف. والغريب أن صلة القرابة أو التقارب الديني واللغوي لا يساعد على قبول اللاجئ، بل إنه يأجج النعرات والعصبيات السلبية ورفض التغيير مهما كان محدودا، وهنا يتمسك اللاجئ بصيغ التحجر الفكري والجمود الثقافي، وهي تبدأ بالتمسك باللهجة الصعبة واستخدام كلمات لها لكنة تمايزه عن البلاد المضيفة، وثم تنتقل للمطبخ وطرق إعداد الطعام، ولعل أطرفها ما ذكر عن انتشار مطاعم البيتزا السورية في بيروت، رغم أن البيتزا موجودة في لبنان منذ أكثر من مائة عام، وبعدها تنتقل إلى الزي والشكل وأثاث المنزل، وهي ما يميز تاميل سيريلانكا الذين يضعون البرادي المنخلة قاتمة اللون، بينما تاميل جنوب الهند لا يضعون برادي بالمطلق، وهذا الأمر على بساطته إلا أنه سبب أكثر جرائم الشرف في جنوب الهند.
أما مشكلة اللاجئ في أوروبا فهي قدرته على الانسلاخ من فكرة المجتمع المستبد إلى مجتمع التعدد الثقافي، فهو مطالب بقبول الآخر مهما كان مختلفاً عنه، وقد استخدمت جماعات النازية الجديدة خطاباً متعصباً ضد اللاجئين العرب لأنهم يكرهون اليهود، ولم يخطر ببال اللاجئين العرب سؤالهم عن موقفهم هم عن اليهود، وفي نفس الطريقة ضد أتباع الكنائس الشرقية في فنلندا فقد اعتبروهم أعداء لليهود لأنهم يؤمنون بأن اليهود هم من قتل المسيح عليه السلام في تشابك صعب يجعل مفهوم التعدد الثقافي هشاً، فقد أحرجت طفلة عراقية الإعلام السويدي عندما قالت كما أن لكم الحق بقبول الزواج المثلي لي الحق في رفضه وإلا فإن ديموقراطيتنا ستصبح مهددة بالانقراض لكثرة الالزام المستبد لرغبات البعض في تهميش رأي الأقلية.
وفي أسئلة غريبة طرحها المهاجرون اليونانيون في استراليا، والذين اعتبروا أن لجوءهم اقتصادي رغم تفسخ الكنيسة اليونانية وهشاشة تأثير الأحزاب السياسية بقي التراث هو الجامع المشترك بينهم بل أن بعضهم يعتبر المهاجرين لمدينة ملبورن الاسترالية متمسكين بطرق الطبخ أكثر ممن يعيشون في اليونان نفسها، وفي صيغة مماثلة يرى أرمن فلسطين ومصر أنفسهم كحماة للتراث الأرمني الذي فسد في وطنهم الأم، وفي مقاييس الفيتناميين في ملبورن يعتبرون الحزب الشيوعي في بلادهم منحرفاً عن الشيوعية وفاقداً أهلية الحديث عن الطبقات المسحوقة، وفي المثال الكلداني والسرياني نرى سطوع نجم مدينة سدني كمرجعية دينية أهم من بعض المدن العراقية.
وفي المحصلة تكون آلية صهر الجامد في هوية اللاجئ أمر صعب للغاية في ظل عولمة المعلومات والتواصل الاجتماعي العابر للحدود، كما أن المجتمعات المضيفة لا تنظر للاجئ بمنظور المؤهل للانصهار المجتمعي، فحتى الجنسية لا تعني شيئاً أكثر من نيل بعض الحقوق لكن اللاجئ هو مهاجر، وهذا ما جعل المواطن درجات، فعلى سببل المثال في استراليا يكون الانجليز هم الأوزي أي الاسترال ويختلفون عن السكان الأصليين الأبروجانيز وكذلك عن الملونيين من المهاجرو بما فيهم مهاجرو جنوب أوروبا، وهذا التمايز واضح بالقوانين والمعاملات وحتى في قبول طلبات الهجرة، فمازالت غالبية المهاجرين الجدد لاستراليا قادمين من بريطانيا!
ومن الناحية النظرية لا يتم تقسيم الهوية الوطنية بين مواطن ولاجئ بل أن الهوية الوطنية تؤكد على مساواتهما، إلا أن علم الاقتصاد الاجتماعي يمايز بينهما بأن المواطن جزء أساسي من مكونات الاقتصاد وهو الجزء القادر على التنمية الاقتصادية، بينما يرى علم الثورة أن اللاجئ هو العنصر المكلف بتفجير الثورة ودفعها للاستمرار لأنه تحرر من الآلة العسكرية للمحتل، الذي يفقد المواطن في المناطق المحتلة القدرة على تغيير جذري للصراع، وكذلك يرى علم الفلكلور أن اللاجئ هو الحصن الأمين للميراث الثقافي والعنصر الأكثر تمسكا بالتراث الوطني. أما علم النفس الاجتماعي فيستنتج أن اللاجئ يصنع وطناً متخيلاً فيه ثبات راسخ للتراث الأصيل الذي يرفض إي مدخل عليها حتى لو كانت إيجابية.
اللاجئ يرفض تعريفا واضحا للوطن المحدد بجغرافيا تحتاج إلى بناء اقتصادي، لأنه يرفض فكرة الأمان والمناطق الآمنة، فهو لا يرى المخيم مكاناً آمناً ولا حتى تشتته بالمهاجر البعيدة لا يمكن أن تكون آمنة، والسبب وراء ذلك أن اللاجئ يحمل بداخله وطنه وهو حمل ثقيل لكنه يخاف عليه بأن يتعرض للخطر، هذا الاحساس العالي بالوطن لا يعني أن اللاجئ أكثر وطنية من المواطن، لأن شكل ومفهوم الوطنية مختلف بين الاثنين، فالمواطن يحب وطنه بطريقة مادية بحتة لها دوائر اقتصادية واجتماعية تجعله يتفاعل مع آلام وأفراح الوطن بطرق مادية محسوسة، بينما يغلب على اللاجئ الارتباط الروحاني المتدرج من الحنين إلى ذكريات الماضي حتى يصل إلى الحلم في الوطن الأفلاطوني حين يعود هو ينزل الوطن من داخله ويضعه على الجغرافيا المحسوسة.
هذا الإرتباط الروحاني للاجئ بوطنه يجعله مؤهلاً في تقرير مستقبله وتحديد طرق عودة اللحمة بين اللاجئ والوطن، وفي سياق تجميد النشاط الثوري للاجئين وتحجيم دورهم في تقرير مصير مستقبل الوطن، لإفساح المجال للمواطنين في الوطن المحتل، يعتبر إجحافاً في حق الوطن والوطنية، لأن المواطن في المناطق المحتلة مهما كانت درجة ارتباطه الروحاني في وطنه سوف يتعثر باحتياجاته المادية الملحة، هذا الصدام في الاحتياجات تصيب المواطن بفقدان التوازن بين حاجته الأساسية بتحرير من الوطن والحصول على المكان الآمن، ومن جهة ثانية يكون المواطن بتوفير مأكله ومشربه ومسكنه مما يضطره لقبول إنصاف الحلول مع القوى المحتلة لوطنه، بينما اللاجئ بشكله العادي يكون متحرراً من هذا الضغط المادي، مما يجعله أقدر على إدارة الصراع الثوري للتحرير الوطني.
وفي نقطة خاصة عن التجمعات المزاحة أو اللاجئين داخل أرض وطنهم، فقد كانوا عنصراً أساسياً بالثورة الفرنسية ضد الحكم الألماني النازي، وهم أيضا وقود الثورة الجزائرية، كما أن مخيمات قطاع غزة تعتبر البؤرة الأهم في تكوين حركة فتح.
إن تدارس هوية اللاجئ تعني دراسة هويته النضالية ومقدرته على تغيير الواقع عن طريق تفجير الثورة، والسير بها بطرق متعرجة بهدف الحفاظ على استمرارها حتى النصر، ولا يهزم ثورة المخيمات إلا أن يتحول ارتباط اللاجئ بالوطن إلى ارتباط مادي عن طريق التفرغ بالثورة مقابل راتب مالي، هذا الارتباط يفقد اللاجئ صفته المتحررة من العوز المالي، إن إسناد مسؤولية الحكومة لقيادة الثورة تؤدي إلى تدمير كلي لكل من ثورية اللاجئ واستمرار الثورة، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة الأعباء الملقاة على قيادة الثورة التي تتحول من عسكر ومقاتلين إلى فرق خدمات للمخيم ووسيط مالي بين اللاجئين والدول المانحة، وهذا كله يؤدي إلى تدهور حاد بقدرة الثورة على الاستمرار وبداية هجرة اللاجئين للمخيم لأنهم لا يريدون وطنا ماديا بل يريدون أن يعيشوا بوطنهم المتخيل لتستمر ثورتهم.