خالد غنام أبو عدنان

اللاجئون هُم القنبلة الموقوتة في وجه الاستعمار وخاصة أولئك الفقراء الذين يعيشون خارج أوطانهم حيث يتحول الوطن في خيالهم إلى جنة الخلد المنتظرة، ففي كثير من الثورات المعاصرة كان اللاجئون الوقود المشعل لحرب التحرير، وبالتأكيد أن فلسطين ليست استثناء لذلك، بل أن الثورة الفلسطينية قبل النكبة استخدمت العمق العربي لتدريب المقاتلين والدعاية المساندة الحربية وغير ذلك من أركان قواعد الارتكاز ، إلا أن اتفاقيات الهدنة التي وقعت عام ١٩٤٩ بين الدول العربية ودولة الكيان الصهيوني حوّلت الجيوش العربية لخط دفاع عن حدود العدو بحجة الالتزام بعقد الهدنة لحين توافر التوازن الاستراتيجي بين الدول العربية ودولة الكيان الصهيوني.
وقد اقتنعت الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين بهذا المنطق الذي تلا النكبة واستمر حتى منتصف عقد الخمسينات من القرن المنصرم، وبعد ذلك بدأت مرحلة جديدة عرفت اصطلاحا بمرحلة التنظيمات الفدائية.
قبل تلك المرحلة كان هناك عمليات عسكرية متفرقة تنطلق من مخيمات الشتات وكان العديد منها يصطدم بالجيوش العربية وأحيانا الأجهزة الأمنية العربية تحبط العمليات قبل خروج الفدائيين من المخيم.
لكن مع يداية تشكل التنظيمات الفدائية صارت مسألة العمل المسلح بحاجة لخطوات عديدة لعل من أهمها الرصد والمراقبة ورسم الخرائط وكذلك استقطاب المرشدين والدلائل وهناك أيضا الإمداد والتموين وبالنهاية الإعلام والدعاية، أي أن التنظيم الثوري بحاجة لكل مقومات الجيوش الحديثة ولا يكفي أن يكون هناك ثوار مستعدون للموت، وهذا السبب الحقيقي لتوحد التنظيمات الفدائية تحت جبهات ثورية عريضة مثل حركة فتح وحركة القوميين العرب لأن ضعف الإمكانيات حال دون تحقيق هدف التنظيمات الفدائية الصغيرة جدا.
ومجرد أن ندرس ما كان يطرح في تلك الفترة لرسم صورة مستقبلية للشكل الذي نريده لمستقبل الثورة.
النقطة الأولى هي التمرد على القيادة وهي أزمة الحاج أمين الحسيني بعد النكبة، فعلى الرغم من كونه زعيم فلسطين الأوحد فقد سقطت زعامته بعد ضياع فلسطين، وانتصار الهاشميين على أتباع الحسيني يفرض شكل العلاقة مع الهاشميين من حليف إلى قائد حاكم، وهذا جعل كل مجموعة تتبع الدولة التي لجؤوا لها، فتوزع ولاء الفلسطينيين بين القيادات العربية ولم يعد مسموحا أن يكون لفلسطين زعيم!
فجاءت حركات التمرد الفلسطينية لتعزيز الزعامة الفلسطينية بداية الزعامة العشائرية ثم الزعامات الثقافية حتى وصلوا للزعامة العسكرية؛ وهي ردة فعل فطرية ضد ما مارسته بعض الأنظمة الرجعية من النظر إلى الفلسطيني بأنه سبب الهزيمة وأحيانا أنه أضعف من أن يحرر فلسطين بدون مساعدة الجيوش العربية. إنها مرحلة إثبات الذات وأن الفلسطيني قادر على الفعل العسكري وأنه ليس جبانا ويهرب من المعركة بل أنه مستعد ليموت فداء للوطن، وهذه النقلة النوعية أفرزت قيادات لها مقومات الزعامة الشعبية انتشرت في مخيمات الشتات. وعلى الرغم من وجود الزعيم التاريخي السابق الحاج أمين الحسيني وكذلك الرئيس الشرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري، إلا أن الزعامة الفدائية المتمترسة بالكفاح المسلح هي التي سحبت بساط الزعامة الشعبية بين أوساط اللاجئين في مخيمات الشتات، لأن الزعامة الشعبية هي خيار طوعي للشعوب لا يفرض بالقوة مهما كان شكل القوة المستخدمة، من قوة ناعمة مثل المال أو القوة الخشنة مثل الاستبداد الأمني، تبقى الزعامة الشعبية خياراً طوعي يجعل الجماهير تلتف حول زعيمها لأنه يحقق حلمها فهي تحمي الأمل الذي تسعى لتحقيقه في ظل زعيمها المبجل.
النقطة الثانية التناقض الرئيس مع دولة الكيان الصهيوني والهدف من النضال هو عودة اللاجئين لقراهم ومدنهم، أما التناقضات الثانوية فهي مع الحلفاء والشركاء وأنصار التنظيم الثوري وكذلك الشخصيات المستقلة، فإذا أنصت لأحاديث المبارزات الحزبية في مخيمات الشتات في حقبة الخمسينات تجدها اجترارا متكررا لأزمة ضعف التنظير السياسي، فقد كانت معظم الأحزاب العربية تنفذ سياسة الإقصاء السياسي للآخرين تطبيقا لمفهوم الحزب السياسي الأوحد لتتماشى مع مفهوم الأممية السوفياتية الاشتراكية، فجاءت مصطلحات مثل مصارعة الديوك وحوار الطرشان وحتى الأفكار الغريبة مثل الشيوعية الإسلامية ونقيضها الفينيقية غير العربية، إنها مرحلة تشتيت الأفكار والانحلال من مسؤولية التمثيل الشعبي لأفكار وهموم الشعب التي يطرحونها في أحاديثهم الخاصة، إلا أن التنظيمات الفدائية طرحت فكرة تعايش الأفكار وأننا نتفق على بداية الفعل الثوري لما اتفقنا عليه وأننا نؤجل القضايا الخلافية لمرحلة لاحقة قد تكون بعيدة مثل طرح فكرة مناقشة المضمون الاجتماعي بعد تحرير فلسطين، هذه الأفكار الماركسية تم تطبيقها من التنظيمات الفدائية غير المصنفة بأنها اشتراكية مما خلق هوسا حقيقيا بين الفروقات الفكرية الثورية والبعض اعتبر الثورة ليست بحاجة لفكر والبعض الآخر بالغ وقال أن الثورة فكر مستقل بذاته. إلا أن السجل التاريخي يثبت أن بداية العمل الفدائي الفلسطيني المنظم بدأ في منتصف الخمسينات في تعدد الروايات بسبب كثرة الأعمال الفدائية لتنظيمات صغيرة جدا. وما هو واضح أن مرحلة النواة في تكوين التنظيمات الفدائية لم تمر بمرحلة الاقتتال العسكري ونعلل ذلك بأن التنظيمات بدأت صغيرة جدا لا تتجاوز حدود مخيم واحد وبالغالب مكونة من أعضاء يجمعهم فكر سياسي مشترك أو قرابة دم.
النقطة الثالثة تقييم المرحلة السابقة وهي مرحلة المراهقة الواعية بالثورة، فهي بداية البحث عن أسباب هزيمة آبائنا وفقدانهم فلسطين، وهذه القضية حساسة جدا في المجتمعات الشرقية حيث أن هالة القداسة للأباء تمنع حوار الأجيال بقضايا صغيرة وخاصة عندما يتم مساءلة الأب لماذا أنا لاجىء؟ لماذا هربت وتركت قريتنا للصهاينة؟ لماذا لم تعد لفلسطين حتى الآن؟ كانت هذه الأسئلة تطرح بقوة بسبب انسداد الأفق السياسي وانعدام الانفراج الاقتصادي والجمود العسكري المصاحب لبدايةِ الانفتاح الفدائي في منتصف الخمسينات. فلم يتم إنزال العقوق السياسي ليصل للأب والجد والرموز العائلية لذا فهي مراهقة واعية حملت الهزيمة للزعيم السابق الحاج أمين الحسيني والزمرة المعاونة له دون أن تصل للأفراد، فلم نمر بمرحلة جلد الذات وعقوق الآباء لأنهم انهزموا مما ساهم بتماسك المجتمع الفلسطيني وحفظه لتراثه من مأكل ومشرب وحتى أمثال وزجل وبدرجة أقل الملبس وشكل ترتيب آثاث المنزل. فجاءت سرديات الآباء مفيدة جدا، حيث ساهمت برسم الخرائط وتحديد أنواع الدوريات وأكثر من هذا استقطاب المرشدين والأدلة في الأرض المحتلة، إنها مرحلة نقل الخبرات وتسجيل أسباب الهزيمة، فقد تم فيها تدوين نضالات الثوار في زمن الانتداب البريطاني وكذلك تقديم دراسات ميدانية عن فعالية الأحزاب القومية والدينية ضمن مفهوم تجربة الآباء في فكر المراهقة الواعية صانعة الفكر الثوري الفدائي في مخيمات الشتات.
النقطة الرابعة مرض الأنا المعذبة؛ إن ظهور الأمراض النفسية في زمن الهزيمة له آثار صعبة خصوصا عند الفئات المنعزلة الرافضة للتجمهر مع الآخرين، والبداية كانت اقتصادية حيث أن الأخ الغني يساعد أخاه الفقير، لكن البعض آثر أن يبقي لنفسه (الهبرة) ويعطي أخاه الفتات في صراع طبقي انتشر في زمن البطالة ومحدودية فرص التنقل بسبب سياسات الأجهزة الأمنية العربية التي كانت تعلم أن الانفجار الفلسطيني قادم لا محال. هذه الظروف خلقت هوسا أمنيا عاليا داخل المخيمات مما دفع التكتلات أن تبقى صغيرة ومشرذمة. من جانب آخر كثرت الألاعيب المخابراتية في شق التنظيمات الموجودة عن طريق دعم انشقاقاتها وتوسيع الهوة بين أقطابها، وهذه الأزمة الحقيقية التي تؤمن بها المخابرات العربية وهي إبقاء فراغ الفعل خارج المخيم وتحويله لمجرد صراع بين المهزومين بقصد موتهم جميعا لأنهم الدم الفاسد في المجتمع، فقد كانت سياسة إذلال اللاجىء تبدأ بالحبس بدون طعام أو ماء وتنتهي( بزحط) جسده بشوارع المخيم حتى الموت، هذه المناظر التي لا نراها بالوقت الحالي مارستها كل الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة، وهي سبب ارتفاع معدل مرض الأنا المريضة في المخيمات في تلك الفترة، فاللاجىء عارٍ تماما أمام المخاطر وعاجز عن حماية أهله أو أرضه فهو ملك مشاع للآخرين ولا حدود لتدخل الآخرين بحياته أو مصيره، حتى أن البعض يسجل أن المكتب الثاني كان يحدد صنفين أو ثلاثة من الخضراوت المسموح دخولها إلى مخيم عين الحلوة، وقد تم محاكمة العديد من التجار بتهمة تهريب الملوخية والبندورة إلى داخل المخيم في صيف ١٩٥٤. وبسبب هذا المرض كان يضطر الشباب للتدرب على السلاح بالقرى العربية المجاورة للمخيمات وأحيانا يكون المدربون من غير الفلسطينيين.
النقطة الخامسة مال الثورة المعدمة وهي أزمة حقيقية واجهت كل ثورات العالم الثالث أن الثورة لا يمكن أن تعتمد ماليا على نفسها وأنها بحاجة لدولة حاضنة تكون على علاقة خاصة بالثورة، وأحيانا تكون الثورة تابعة فكريا أو قوميا للدولة الحاضنة، وقد لا تكون الدولة الحاضنة دولة واحدة بل مجموعة دول بحالة عداء مع عدو مشترك ولكنها أيضا بحالة صراع فيما بينهما ويأتي دعمهم للثورة في مسعى زيادة التجاذب الإقليمي لمحور المقاومة. وقد يكون ذلك المال مشروطا بأسلوب نضالي معين مثل الكفاح المسلح أو مشروطا بعمل خارج حدود الدولة الحاضنة، فالعمليات العسكرية التي انطلقت من الأراضي السورية كان يتهم فيها أنصار الرئيس المصري جمال عبد الناصر أو بتمويل منه شخصيا. أزمة المال السياسي وشراء الذمم جعل العمل الفدائي يوصف بأنه مكيدة سياسية ضمن صراع الأنظمة العربية فيما بينها، مما أفقد العمليات القدرة على الاستقطاب الإعلامي أو الحصول على مكاسب سياسية أو حتى توسيع دائرة الاستقطاب الحزبي مما وضع التنظيمات الفدائية في خانة التنظيمات المعدمة ماليا وبحاجة لراع داعم ماليا على أن تكون شروطه تتوافق وأهداف التنظيمات الفدائية وهذا كان صعب المنال، فجاءت فكرة الاعتماد على التبرعات غير المشروطة من أبناء المخيم الميسورين أو وجهاء القرى العربية ثم انتقلت للبحث عن المال في مدن النفط العربي والمهجر الألماني. وهي نفس الفترة التي ظهرت فيها مؤسسات خيرية عديدة تهدف إلى تحسين أوضاع المخيم وتطوير البنى التحتية، ومهما كان الحديث عن تلك المرحلة بالإيجاب فلقد كانت من الناحية المالية مليئة بالسلبيات التي شكلت كتل المنتفعين ماليا بما يسمى مؤسسات المجتمع المدني دون أن يكون عليها أي رقيب مالي ولا تخضع لمحاسبة إهدار المال العام أو شفافية العلاقة بين المؤسسات والتكوين المجتمعي للمخيمات.
إن دراسة هذه النقاط الخمس لواقعنا الحالي بعمق شديد يجعلنا نبحث عن فعالية المبادرات الشبابية التي يتم إيهامها بأنها تحقق أهدافها عن طريق تكتلاتها الصغيرة واهتماماتها الخدماتية لأنها بالنهاية تنفذ خطط الجهات الراعية لها دون أن تمتلك زمام القرار في تنفيذ ما تقوم به، فهو أحيانا يهدف لزعزعة مفهوم الزعامة الشعبية أو العودة لوصاية تلك الدولة أو التنظيم الأممي أو الارتباط الخفي بين مؤسسات المجتمع المدني والمخابرات الدولية في سياسة تفتيت الخصوم من الداخل التي تتبعها المخابرات البريطانية وكل الأجهزة الأمنية المرتبطة معها في حلف الناتو.
إن المبادرة الشبابية لا تخرج من كونها محلية البدايات لكنها تطمح لخدمة القضية الفلسطينية بشكل عام، ولعل أحد أخطر إفرازات اتفاقية إعلان المبادىء المعروف باسم اتفاقية أوسلو لغزة وأريحا أولا تم استغلاله بشكل مدروس من المخابرات الدولية التي روج عملاؤها أن المخيمات منسية ولا مستقبل للاجئين إلى العودة لوطنهم خصوصا بعد فشل الفصائل العشرة المعارضة للاتفاقية من طرح بديل عملي أو القدرة على التصعيد العسكري لسحب الزعامة الشعبية من الرئيس الراحل ياسر عرفات. فسقطت الدائرة الجامعة المسماة بمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لتحل محلها وزارات السلطة الوطنية الفلسطينية في زمن بناء مؤسسات الدولة، وهي أزمة أزمات الثورة الفلسطينية حيث أنها أعادت بناء مؤسساتها خمس مرات بشكل كامل بداية من مؤسساتها بالأردن ثم لبنان وبعدها تونس وتلت ذلك غزة والآن رام الله وفي كل مرة يتم فيها انتقال القيادة السياسبة من منطقة إلى أخرى يتم فيها موت مؤسسات في المنطقة القديمة وسحب صلاحيات من كانوا يعملون فيها وتجفيف أموالها لصالح ميلاد مؤسسة جديدة في مكان جديد، هذا رغم أن انتقال القيادة السياسية لا يعني انتقال المخيمات معها، وأن الخدمات هي للمخيمات لا للقيادة، إلا أن شعبية القيادة تزداد بمقدار ما تصرفه على المجتمع وبمقدار الوظائف التي تخلقها لذا يكون منطقيا أن يحدث هذا التحرك للعمل المؤسساتي إلا أنه يطرح مسألة تمثيل الشعب كله على المحك، فإذا كنت تمثل مخيمات الأردن ما هي الخدمات التي تقدمها لهذه المخيمات، وكم عدد موظفي هذه المخيمات في مؤسسات السلطة؟
الحقيقة أن الفعل الثوري لا يمكن أن يتحقق ضمن حسابات المال والولاء السياسي، وهذه معضلة المبادرات الشبابية التي تسعى لقطف سريع لثمار غير ناضجة مما يسبب عدم نموها بشكل طبيعي، فالبداية كثرة اتهامها للفصائل الفلسطينية بأنها فاسدة ماليا وإداريا، رغم أنها مرض مستفحل بمؤسسات الثورة الفلسطينية بل في كل بلاد العالم الثالث ولا يمكن نكران مدى أثرها السلبي في تطوير الأداء الخدماتي وبالتأكيد الفعل الثوري، والغريب أن الغالبية العظمى من المبادرات الشبابية تقدم خدمات اجتماعية وبنى تحتية في المخيمات وهي مهمة أساسية من اختصاص مؤسسات الأونروا وباقي الهيئات الدولية العاملة بالمخيمات، بالمقابل لا يوجد أي مبادرة شبابية تقوم بعمل عسكري ضد الكيان الصهيوني بل أن أغلب هذه المبادرات تنتهي عند التنظيمات الإسلامية المتشددة في العراق وسوريا وسيناء وقليل منها ينخرط في صفوف حزب الله، وهذا يحدد أن المتجهات الفكرية مرتبطة بالقدرة المالية أكثر من الزعامة الشعبية وأن النضال الفلسطيني لا يمكن فصله عن محيطه العربي وبعده الإسلامي.
إن المستقبل الحقيقي للثورة في المخيمات يحتاج إلى وقفة واعية من الأجيال الشبابية يكون لهم خطة عمل بعيدة المدى ترتكز أساسا على دراسة النقاط الخمس المشكلة لأركان الثورة والسعي الحقيقي لتصويب مسار الحركة الثورية الفلسطينية من خلال تقويم عمل الفصائل الوطنية أو خلق فصائل ثورية تتناسب ومستقبل الثورة في المخيمات.