خاص مجلة القدس/ الاصدار السنوي العدد 344 كانون الثاني 2018
حوار: كاترين سليمان

تُحيي حركة "فتح" ذكرى انطلاقتها الثالثة والخمسين ثابتةً على مبادئها، فلسطينية الوجه، عربية العُمق، عالمية الامتداد، منتهجةً مختلف أساليب النضال، ومتجاوزةً أصعب وأخطر المؤامرات والتحدِّيات. وبمناسبة هذه الذكرى المجيدة، أجرت مجلّة "القدس" حوارًا خاصًّا مع عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، سفير دولة فلسطين لدى الجمهوريّة اللُّبنانية، أشرف دبور، حول ما تشهده الساحة الفلسطينية من تطوّرات سياسية مرتبطة بإعلان الرئيس الأمريكي القدس عاصمةً لـ(إسرائيل)، والحراك الدبلوماسي والشعبي والدولي ردَّا على هذا القرار الجائر، والمصالحة الوطنية، إلى جانب قضايا متعلِّقة بوضع الفلسطينيين في لبنان.

نحنُ على أعتاب الذِّكرى الثَّالثة والخمسين لانطلاقة الثَّورة الفلسطينية وحركة "فتح"، ما الذي تغيَّر بين الأمس والحاضر؟ وكيف حافظت حركة "فتح" على ديمومتها رغم مرور السنوات ومحاولات التصفية والإلغاء؟
الانطلاقة جاءت على إثر نكبة شعبنا الفلسطيني عام 1948 وتهجيره في أصقاع الأرض. لقد جاءت من كلِّ فلسطيني مؤمنٍ بحقِّه في وطنه، فجعلت من النّكبة جمرةً للثَّورة، ونقلَت القضيَّة الفلسطينية من قضية لاجئين ومخيَّمات إلى قضية ثُوّار ومناضلين يسعون إلى تحرير أرضهم من المحتل الغاصب. ورغم قلّةِ عددِ المنضَمين إلى صفوفها إلّا أنَّ الثَّورة استمرَّت، بل وحقَّقت انتصارًا في العام 1968، حين شاهد العالم هؤلاء الفتية الذين أوقفوا جحافل العدو الصُّهيوني في منطقة الكرامة بمساندة قوات الجَّيش الأردني، وكان ذلك بعد الهزيمة التي مُنيَت بها الأُمّة العربية في العام 1967، فجسّدت معركة الكرامة نقلةً نوعيّة لقضيَّتنا. ثُمَّ توالت الانجازات والانتصارات الفلسطينية وصولاً إلى رفع العَلم الفلسطيني اليوم عاليًا خفّاقًا على منبر الأمم المتحدة إلى جانب أعلام كلِّ بلدان العالم المعترَف بها دوليًّا. إنَّ هذا الانجاز، وغيره من الانتصارات والمكاسب، ما كانت لتتحقَّق لولا تضحيات شعبنا وشهدائنا وأسرانا وأمهاتنا وأطفالنا، وما تحلّوا به من إصرار وعزيمة على انتزاع حقوقهم من هذا العدو الغاصب، ولولا جهود وتضحيات قيادتنا الفلسطينية الحكيمة. لقد كان للرئيس الشهيد ياسر عرفات "أبو عمّار" -رحمه الله- الجهد الأكبر في إيصال القضيَّة الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، ثمَّ أكمل المشوار من بعده الثَّابت على الثوَّابت الرَّئيس محمود عباس "أبو مازن"، الذي يتمسَّك بالثوابت الفلسطينية التي خطَّها الشَّهيد الرَّمز "أبو عمار" بدمائه وتمسُّكه بحقِّ شعبه.
ولا نبالغ إذا قُلنا إنَّ حركة "فتح" هي من أكثر الحركات التي تعرَّضت لمؤامرات عديدة، لكنَّها استطاعت أن تتجاوز كلَّ ما كان يُحاك ضدّها لأنَّها في الأساس فكرة، والفكرةُ لا تموت. فحركة "فتح" تولد تلقائيًّا مع الطفل الفلسطيني، فيجد نفسه بالفطرة فتحاوياً، لأنَّها اختارت المسار الصائب، وقد آمن بها كلُّ من آمن بحقِّه في وطنه.

أنتَ مَمَّن عاصروا الرَّئيس الشهيد ياسر عرفات، برأيك لو كان ما يزال على قيد الحياة كيف كان سيصف واقع الحركة اليوم؟
لو كان الشهيد ياسر عرفات على قيد الحياة لكان وقفَ وقفةَ إجلالٍ لهؤلاء المناضلين الذين أكملوا دربه ومسيرته ونهجه وخطة نضاله، ونحن على العهد باقون حتى تتحقَّق مقولته بأنه سيأتي يومٌ ترفع فيه زهرةٌ من زهراتنا أو شبلٌ من أشبالنا عَلم فلسطين فوق مآذن القدس وأسوارها وكنائسها، بعد كلِّ هذا الظُّلم اللاحق بشعبنا الفلسطيني الذي ما زال الشَّعب الوحيد على الكرة الأرضية المحروم من استقلاله، وكلَّما عظم الظلم قرب النَّصر.

بعد إعلان الرَّئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمةً للكيان الصُّهيوني، نقفُ اليوم على أعتاب انتفاضة غضب فلسطينية، فهل هذا كافٍ؟ وما هي خيارات المواجهة أمامنا؟
يجب أن يعمَّ الغضب ليس فقط على الصعيد الفلسطيني، بل على صعيد العالم العربي والإسلامي والدولي والأممي، وفي كلِّ أرجاء المعمورة ضدَّ مثل هذا القرار الجَّائر الظَّالم الذي أعطى بموجبه من لا يملك لمن لا يستحق، ولا يحق لترامب أو غيرة بأن يمنح القدس كعاصمة للكيان الصُّهيوني، وإن أراد أن يمنح (إسرائيل) عاصمةً فليمنحها عاصمته أو مدينةً من مدنه. هذه القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشَّريفين، مسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلَّم وعيسى المسيح، وأيام الغضب القادم ستُري ترامب ما هي القدس وما هي الخطوة التي أقدم عليها بلا حساب.
الشَّعب الفلسطيني لا يركع إلا لله عز وجل، وعندما قرَّر نتنياهو أن يضع بوابات الكترونية على مدخل القدس هبَّ شعبنا الفلسطيني بصدوره العارية لمدة 14 يومًا، واستطاع أن يزيل تلك البوابات، فكيف عندما يقول ترامب القدس عاصمة للكيان الصُّهيوني!
وبالنسبة لخطط المواجهة فهي كثيرة، ونحن نُعوِّل بشكلٍ كبيرٍ على صمود وبسالة شعبنا في الميدان، ولدينا قيادة حكيمة تستطيع أن تكون رائدةً في العمل الدّبلوماسي الدّولي، كما شاهدنا منذ عدة أيام في مجلس الأمن، حيث عارضت 14 دولة قرار ترامب فيما مارس هو حق النقض "فيتو"، فذهبنا إلى الجمعيَّة العامة وحصدنا 129 صوتًا قالوا لترامب لا. متى كانت الولايات المتَّحدة تُصدِر قرارًا وتحصل على مثل تلك النتيجة؟! ذلك لم يحصل إلّا عندما واجهت الشَّعب الفلسطيني الَّذي لا يقدر أحد على كسر إرادته وصموده، لقد أخطأ ترامب، وسيحصد ما زرعه بحقِّ قدس الأقداس.

ما رأيكم بالمواقف الدولية تجاه القرار الأمريكي؟
لقد شاهدنا مواقفَ عديدةً تراوحت بين قوية وضعيفة، وكُنا نأمل من جميع أصدقائنا، وأشقائنا، وأحرار العالم وأُمَمه مواقفَ أشدَّ صلابةً، لأنَّ ترامب عندما أصدر قراره راهنَ على أنَّ الاعتراض على هذا القرار سيكون لمدةِ زمنيّةٍ محدَّدةٍ، ومن ثُمَّ يمر، ولكنَّنا بالتأكيد نُعوّل على بسالة وصمود شعبنا الذي هو المحرك الأساسي للكرة الأرضية بأجمعها. وهذا القرار الجَّائر ليس له أيّة مكانة أو شرعية ولا أي مفعول على الأرض، ولن يستطيع ترامب ولا الدول السبع التي أيَّدته، تنفيذَ القرار.

المصالحة الوطنية من أبرز القضايا التي تشغل الشارع الفلسطيني. إلى أين وصل العمل في إنجاز هذا الملف بعد مضي أكثر من شهرين على توقيع اتفاق المصالحة؟
وحدتُنا الفلسطينية هي أساسُ المواجهة لأيِّ ضربة لمشروعنا الوطني، ونحن ماضون باتجاه تحقيق الوحدة الوطنيَّة فلسطينيَّة، وبالتأكيد هناك عقباتُ تعيق العمل هنا أو هناك، إلا أنَّ القرار الفلسطيني هو الذهاب إلى المصالحة التي أصبح الجميع يدرك مدى أهميتها. بطبيعة الحال، مشكلات 11 عاماً من الانقسام لا يمكن أن تُحلَّ بشكل سريع، ونحن نتخطَّاها خطوةً تلو خطوة للوصول إلى وحدةٍ فلسطينيةٍ مترابطةٍ متماسكةٍ ومتينةٍ، وهي مطلَبُ الكلِّ الفلسطيني، فهي كالكرة تتدحرج إلى أن تصل إلى خواتيمها لمواجهة ما يُدبَّر ويُحاك ضدَّ مشروعنا الوطني.

هل هناك أيَّةُ تدخلاتٍ من بعض الدول لإجهاض المصالحة؟
ليست هناك أيَّة تدخلات حاليًّا، لكن في الفترات السَّابقة حاولت بعض الدول تعطيل المصالحة، لأنَّها لا تريد للبيت الفلسطيني أن يتلاحم، وبالتأكيد هذه المساعي يقفُ خلفها العدو الصُّهيوني ومَن لفَّ لفَّه.

شكَّلت نتائج المسح الإحصائي للسكان والمساكن في المخيّمات والتجمّعات الفلسطينية في لبنان صدمةً للبعض الذين كانوا يتحدَّثون عن وجود نحو 400,000 لاجئ فلسطيني في لبنان، ليتَّضِح أنَّ العدد الفعلي هو 174422. كيف تقرؤون هذه النتائج؟ وهل ترونها مقدمةً لإعطاء الحقوق المدنيَّة والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان؟
على مدار سنتين من الحوار، كانت الجهات اللُّبنانية تتناقش حول قانون العمل، وتقف عند نقطة تحديد عدد الفلسطينيين في لبنان، ومن هنا نَبذت فكرة الإحصاء الذي تُمثّل نتائجه قاعدة البيانات التي سيتم العمل عليها لحل بعض القضايا الخاصة بعمل الفلسطيني، ولكن تنبغي الإشارة إلى أنَّ 174,422 لاجئ ليس عددَ الفلسطينيين الـمُسجَّلين في لبنان، وإنمَّا هو عدد الفلسطينيين المقيمين فعليًّا في لبنان.
كما أنَّني أعارض مَن يتحدَّثون عن أنَّ هذا العدد الـمُعلَن عنه قد يؤدّي للتوطين، فالعددُ لا علاقة له بذلك، لأنَّنا نحن نرفضُ التَّوطين، وهذا القرار محسومٌ الأمر فيه من قِبَل الجهات الفلسطينية واللُّبنانية، كما أنَّ دستور الطائف في لبنان ينصُّ في أول جملة فيه على عدم التوطين، ونحن أرسلنا رسالةً إلى الجهات اللُّبنانية برفض التوطين، وسنواجه معًا أيَّ مشروع توطين، فنحن أحرار في قراراتنا، وسنحافظ على حقِّنا بالعودة إلى أرضنا، ونشكر لبنان الشَّقيق على مواقفه المشرِّفة والداعمة للشَّعب والقضيَّة الفلسطينية.

كيف تُقيِّم الوضع الأمني في المخيَّمات؟
للأسف مرَّت في السابق على مخيَّمنا أحداثٌ مؤسفةٌ ومُدانةٌ من الجميع، وكان الإجماع الفلسطيني على العمل سوياً للخروج من هذا المأزق والخطر الكبير المحدق بمخيماتنا لكنَّ الجهد والوعي والثَّقافة الفلسطينية الكاملة الموجود عند الجميع هو الَّذي أوصلنا إلى تجاوز مخططات صعبة حتى أصبح الأمن في المخيَّم عنوان العمل الفلسطيني ومسار اهتمام لدى المسؤولين اللُّبنانيين الذين أكَّدوا خلال لقاءاتنا أنَّ الفلسطيني في لبنان هو عنوان تثبيت الأمن والاستقرار في لبنان.

خروج بعض المطلوبين الإرهابيين من المخيَّم شكَّل ارتياحًا لدى الأهالي. هل تعتقد أنَّ ذلك سيُمهِّد لحلِّ قضية المطلوبين عمومًا؟ وما هو دور السفارة تجاه هذه القضية؟
شَهد المخيم خروجَ عددٍ من المطلوبين، ولكنَّ خروجَهُم ليس أساس المشكلة، هُم جزءٌ منها، إلّا أنَّ هناك أجزاء أخرى يتمُّ العمل على حَلِّها بيد بيضاء، وللجميع التَّقدير والتَّحية على كلِّ ما قاموا به لتجنيب مخيَّماتنا ما كان يُخطَّط لها. المخيَّمات هي رمز للعودة إلى فلسطين وليست شوكةً في خاصرة البلد الذي استضافنا، فهدف الشَّعب الفلسطيني في المخيَّمات وبكافة أطيافه هو العودة إلى أرض الوطن. وهنا أُنوِّه إلى أنَّ المطلوبين لم يخرجوا بصفقة، بل كان خروجهم فرديًّا، ولو كانت هناك صفقة لكانت القضية عُولِجَت بطريقة أخرى، ولكنَّنا نأمل أن يشملَ العفو الذي سيصدر في لبنان الفلسطينيين كما سيشمل اللُّبنانيين وهذا ما نعملُ عليه. فالسِّفارة لديها مسؤوليات كبيرة تجاه المطلوبين، وتجاه الكلِّ الفلسطيني، وهي تقوم بالتَّواصل مع الجهات الرَّسمية اللُّبنانية حول كلّ القضايا، وتعمل على معالجتها. ونحن نشكرُ الدَّولة اللُّبنانية على تعاونها واستضافتها لنا، ونأمل أن نعطي مثالاً في الالتزام بالقرار الفلسطيني الذي أعلنه الرَّئيس محمود عباس خلال زيارته إلى لبنان، وأن نكون عامل أمن واستقرار.

كيف تصف العلاقة الفلسطينية اللبنانية اليوم؟
هناك علاقةٌ وطيدةٌ ومتينةٌ مع أشقائنا اللُّبنانيين، وقد لمسنا تطوُّرًا وتحسُّنًا واستيعابًا وتعاطفًا من قِبلهم، بالإضافة إلى إجرائهم التسهيلات في كلِّ القضايا الخاصَّة بالشأن الفلسطيني. إنَّ الكل اللُّبناني يقف دائماً إلى جانب شعبنا، وكان آخر هذه المواقف الداعمة لنا وقفات الرَّفض الشَّديدة من لبنان حكومةً وشعبًا ضدَّ قرار ترامب، حيثُ اعتبروا أنَّ هذا القرار يمسَّهم شخصيًّا. هذا هو الشَّعب اللُّبناني الذي عوَّدنا على كرمه وأخلاقه العالية تجاه شعبنا.

إلى أين وصلت معالجة ملف الفلسطينيين الفاقدين للأوراق الثُّبوتيّة؟
هناك عددٌ من الفلسطينيين لا يملكون أوراقًا ثُبوتيّةً من الحكومة اللُّبنانية، إنَّما يملكون أوراقًا ثبوتيَّة من سفارة دولة فلسطين في لبنان، وذلك بالتنسيق مع الجهات اللُّبنانية الرَّسمية الممثَّلة بالأمن العام اللُّبناني. فقد أصدرت السِّفارة بطاقةً لفاقدي الأوراق الثُّبوتيّة تُخوِّل حامليها ممارسة حقوقهم المدنية (تعلم، وزواج، وغيره)، كما أصدرنا جوازات سفر صادرةً عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وأصبح بإمكانهم السَّفر إلى الخارج مع ضمان حق العودة إلى لبنان، وذلك يتمُّ عبر تسوية عن طريق السِّفارة الفلسطينية. لقد أنجزنا الكثير لحلِّ هذه القضية، ولم تعد هناك أيّة مشكلة في هذا الخصوص.