تحقيق: ابو ياسر

 كانت مدرسةُ "بيت إسعاد الطفولة" في منطقة سوق الغرب ملاذًا للرئيس الشهيد ياسر عرفات كلَّما ضاقت به الدنيا، وأثقلت نفسَهُ الهمومُ. فهذه المدرسةُ التي أُنشِئَت لتكون صرحًا لتعليمِ ورعايةِ أبناء الشهداء، ما لبثت أن غدَت منزلاً دافئًا تسوده العلاقات الأخَويّة الصادقة، وتتجلَّى فيه أسمى صُوَرِ الوفاء بالعهد للشهداء والعلاقة الأبوية ما بين الرئيس الشهيد والطلّاب الذين لم يعاملهم يومًا إلّا كأبناء له من صلبه، فبادلوهُ كلَّ الوفاء.

بيتٌ واحدٌ وأُسْرةٌ واحدةٌ
على مدى سنوات عملها، احتضنت مدرسة "بيت إسعاد الطفولة" العديدَ من الأطفال والموظَّفين الذي وجدوا في هذه المؤسّسة ملجأَهُم وبيتَهم الثاني. فمحمد طاهر (محمد حميد) هو من أوائل الطَّلاب الذين التحقوا بمدرسة "بيت إسعاد الطفولة"، إذ يقول: "التحقتُ بالمدرسة من العام 1969 وحتى العام 1979. وفي مطلع السبعينات، التحقَ بالمدرسة طلابٌ قادمون من الأردن وسوريا، وهُم من أبناء شهداء مجزرة أيلول الأسود، حيثُ بقوا في المدرسة نحو أربع سنوات، وكانوا يعودون خلال العطلة الصيفية إلى بيوت أقربائهم. ومع توالي أحداث الحرب الأهلية اللبنانية ما بين العامَين 1975 و1976 لم يعد باستطاعة الطلّاب القادمين من الأردن دخول لبنان، ولكن في الوقت ذاته، أُغرِقَت المدرسة بالطلاب، إذ جيء بحافلاتٍ مليئةٍ بالطلاب القادمين من مخيّم تلِّ الزعتر اثر المجزرة التي حاقت به، وفي تلك الفترة كانت العديد من المناطق تتعرّض للقصف والاستهداف، ولحمايتنا قُسِّمنا لمجموعاتٍ نُقِلَت كلٌّ منها إلى وجهةٍ مختلفةٍ، كالدّامور والجيّة وكيفون وشملان والجبل، وغيرها".
وبسؤاله حول أبرز ما علِق في ذاكرته من مواقف لأبي عمّار، قال: "كان يرفضُ أخذَ الطعام إليه في مكتبه، ويُصرُّ على تناول طعامه مع الطلاب، وأذكرُ أنَّه جاء مرَةً مع الإمام موسى الصدر، وأصرَّ أن يتناول معنا هو والإمام طعام الغداء".
أمَّا "أبو موفق" (79 عامًا) فهو أحدُ الموظَّفين القُدامى في المدرسة، إذ بدأ العمل فيها منذ العام 1972، وتولَّى مسؤولية طهي الطّعام للأطفال.
وحول تجربته في المدرسة على هذا المدى الطويل، والصعوبات التي واجهت عمله، يقول: "لم يكن "بيت إسعاد الطفولة" مجرَّد مدرسةٍ بالنّسبة لنا، وإنَّما كان بيتنا أيضًا، فقد كنّا نشعرُ أنَّنا جميعًا إخوة، نعيش معًا اللَّحظات الجميلة كما نتجاوزُ معًا الصعوبات. ولعلَّ أبرز المراحل العصيبة هي فترة الاجتياح الصهيوني، حيثُ تضاعفت مسؤولياتنا، فكنَّا نطهو الطعام وننقله إلى الجبل حيثُ يحتمي الأطفال، وبدورهما كان الشهيدان أبو عمَّار وأبو جهاد الوزير، وأم جهاد أيضًا، يذهبون إلى الجبل للاطمئنان على الأطفال".
ويُشيرُ "أبو موفق" إلى أنَّ الرئيس الشهيد ياسر عرفات كان دائمَ الزيارة والتّفقُّد لأبناء الشهداء، مُضيفًا: "عندما كان أبو عمَّار يزور المدرسة كنَّا نشعرُ أنَّ الدنيا تُضيء نوراً، وقد اعتاد ألّا يدخل ويخرج من الباب نفسه، فإن دخل من الباب العلوي للمدرسة خرج من الباب السفلي، والعكس، كما أنَّه كان فور دخوله يشرع باحتضاننا كأبنائه وإخوته".
ويُردف: "عملتُ في "بيت إسعاد الطفولة" نحو عشر سنوات، إلى حين وقوع الاجتياح الإسرائيلي، إذ اضطُّررنا لإغلاق المدرسة، وانتقلتُ إلى مدرسة أبناء الشهداء في منطقة عدرا في سوريا، حيثُ عملتُ أيضًا نحو 10 سنوات".
بدورها عاشت رجاء أحمد، ابنة "أبو موفق"، تجربةً غنيّةً خلال التحاقها وإخوتها بالمدرسة اثر وفاة والدتها، وحول ذلك تقول: "كان القائدُ الأب أبو عمَّار -رحمه الله- يزورنا ويتابعُ أحوالَنا ويُطمئنُّ علينا بصورة دائمة، وقد اعتدنا فور دخوله أن نتسابق إليه ونًقبِّلهُ، وأذكرُ أنَّ المشرفين على المدرسة في إحدى المرّات قالوا لنا لا تُزعِجوا أبا عمَّار عندما يأتي اليوم لأنَّه مُتعَب، وعندما جاء تفاجأ بأنَّنا لم نقترِب منه، فسألَ عن سبب ذلك، فأخبروهُ بأنَّهم من طلبَ إلينا ذلك، وعندها قال: (بل سأجلسُ هنا، والأولاد سوف يأتون لتقبيلي واحدًا واحدًا)، فحتى وهو متعَب والهموم تُؤرقُه كان حنونًا علينا وحريصًا على احتضاننا وتقبيلنا. كما أَولَى موضوعَ التعليم أهميّةً كبيرةً، وأذكرُ أنَّه طلب إلى الأستاذ أحمد حليمة، الذي كان طالبًا في الجامعة آنذاك، أن يأتي لتعليم الأطفال في المدرسة خلال الوقت المتاح له، وعندما أنهى دراسته الجامعيَّة زوَّجه إحدى طالبات المدرسة وهي نايفة شعلان، وساعدَهُ ليتمكَّن من توفير حياة كريمة لعائلته، وفعل الأمرَ نفسَهُ مع حسن بزلميط الذي زوجّه الطالبة عريفة عبّاس، ومع العديد من الطلاب الذين ساعدهم في استكمالِ مسيرتهِم التعليميّة والمهنيّة أو تأسيس حياتهم العائلية".

أبو عمَّار رأى المستقبل في عيون أبناء الشهداء
ضمَّت مدرسة "بيت إسعاد الطفولة" العديدَ من المشرفين والعاملين الذين تفانوا في عملهم ورعايتهم للأطفال، وانتقلوا لاحقًا إلى مدرسة عدرا في سوريا، ومن بينهم المشرفة والمعلِّمة آمال بكراوي، التي عملت في المدرستَين ما بين العامَين 1978 و1987.
وحول نظام المدرسة وطبيعة عملها فيها تقول: "مدرسة "بيت إسعاد الطفولة" كانت صرحًا يضمُّ عددًا كبيرًا من الطلاب الذي استشهد ذووهم في الأردن وتل الزعتر والجنوب اللبناني، وكانت تتلقّى الدعم من "م.ت.ف"، وبإشراف حبيبنا وأبينا ياسر عرفات. وقد تضمَّنت قِسمًا داخليًّا للطلاب الذين ليس لهم أيُّ أقارب إذ كانوا يمضون فترة الصيف في المدرسة، ولهذا القِسمِ مُشرِفون وعُمَّال خاصّون به، إلى جانب القسم التعليمي وله إدارة تعليمية مُنفصِلة عن الإدارة الداخلية، وكانت المدرسة مُنقسِمة لأجنحة، سمَّينا كلاً منها بِاسم مدينة فلسطينية، فكان هناك جناح القدس وجناح الرّملة وجناح حيفا، الخ، ليبقى الوطن ومدنه في وجدان وذاكرة الأطفال، ولتذكيرهم أنَّ وجهتنا التي ضحّى أهلهم من أجلها هي فلسطين".
وعن علاقة الرئيس الشهيد بالطلاب تقول: "كان أبو عمَّار يزور المدرسة دائمًا، وكانت علاقته بالطلاب وثيقةً جدًا، وبدورهم أحبَّ الطلاب أبا عمَّار حُبًّا جمًّا. وقد حرص الرئيس الرّمز على دعم المدرسة من الناحية المادية، ومن ناحية العلاقات أيضًا، فقد كان يهتمُّ بأن تقوم الوفود القادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة أو أميركا اللاتينية أو وفود الصداقة العالمية والوفود العربيّة التي تزور لبنان للاطلاع على وضع "م.ت.ف" والثورة الفلسطينية، بزيارة المدرسة، والتعايش مع الطلاب، وكان يفتخر جدًا بالطلاب، ولطالما كان يُردِّد مخاطبًا أبناء الشهداء والزهرات والأشبال: (إنّني أرى النَّصر بعيونكم)، وكلَّما كانت تضيقُ به الدنيا، أو يشعر أنَّه بحاجةٍ للترويح عن نفسه، كان يتَّجه للمدرسة ويجلس مع الطلاب".
وتضيف: "كان أبو عمّار يحبُّ الأطفال ويحنو عليهم كثيرًا، ودائمًا ما كُنَّا نراهُ يمسحُ بنفسِهِ أفواه الأطفال، أو ينحني ليربطَ حذاءَ أحدٍ منهم، أو يحتضنهم ويُلاعِبَهم وهُم يقفزون على كتفَيه، كانت علاقته بالأطفال مميَّزةً جدًا، ملؤها العطف والحنان".
وتوضح بكراوي أنَّ الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخطورة الوضع على الطلاب في العام 1982، حتَّم على المشرفين نقلَ الطلاب من المدرسة في سوق الغرب إلى المدينة التعليمية التي أنشأتها "م.ت.ف" في سوريا بمنطقة عدرا، مُردِفةً: "بعد انتقالنا إلى سوريا، واصلَ أبو عمَّار زيارتنا، وكانت زيارته الأخيرة للمدرسة فترة حدوث الانشقاق عن حركة "فتح" حيثُ باتَ وجوده في سوريا يُشكّل خطرًا عليه، فقال لنا: (هؤلاء الأطفال أمانةٌ في رقابِكم، انتبهوا لهم، وأنا أودّعكم). وفي وقت لاحق، تمَّ توسيع المدرسة، والتحق بها طلاب من سوريا، وقد تابعت التعليم فيها حتى العام 1987، إذ اضطررتُ لتركها بسبب الظروف السياسية آنذاك، (كوننا "فتح" أبو عمّار)".
من جهة ثانية، تنوِّه بكراوي إلى أنَّ الرئيس الشهيد على قدر اهتمامه بنيل الطلاب التعليم الجيّد، فإنَّه أولى الجانب الفني والثقافي والرياضي والكشفي اهتمامًا كبيراً، فتقول: "كانت لدينا فرق رياضيّة وكشفيّة تابعة للمدرسة مسؤولتها فاطمة الشهابي -رحمها الله- وفرق فنيّة كانت تُدعَى لمختلف دول العالم لتعرض الفنَّ الفلكلوري الفلسطيني، والتي ساهمت بالفعل في نشر الفن الفلسطيني، وكانت تضمُّ الأخت حورية الفار التي شكَّلت فيما بعد فرقة "الكوفية"، بالإضافة إلى التدريب على التطريز والأشغال اليدوية.كما تردَّد على المدرسة العديد من الفنانين كعبدالله حداد ومحمود سعيد والشاعر بديع ربيح، وأبو كفاح الذي درّب الطلاب على الموسيقى، وغيرهم، بالإضافة إلى فنانين تشكيليين، فباتت المدرسة صرحًا ثقافيًّا نابضًا".
وتتابع: "لقد خرَّجت المدرسةُ العديدَ من الطلاب الذين حقَّقوا نجاحاتٍ وإنجازاتٍ في مختلف الميادين، لأنَّ أبا عمّار حَرِصَ على متابعتهم بعد تخرُّجهم من المدرسة، وقد شكّلوا رابطةً من خرّيجي المدرسة أطلقوا عليها اسمَ رابطة "بيت إسعاد الطفولة"، وكانوا يُخصِّصُون منحًا دراسية لمساعدة طلّاب المدرسة ويرسلونهم إلى أوروبا لاستكمال دراستهم، وعلى سبيل الذكر فمن مدرستنا تخرَّج السفراء أحمد المذبوح وأحمد فهمي وتوفيق راتب وناصر منصور، والأخ محمد الملقّب بـ"الجموع" وهو مسؤول عن المترجمين في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى عددٍ من الأطباء الذين باتوا مشهورين في أوروبا، وشخصياتٍ عديدة لمعت في المجتمع، كالأخ زعل الذي يعمل اليوم في الإعلام في فلسطين، ورئيس تحرير وكالة "معًا" ناصر اللّحام، ود.ثابت طه وهو من أهمِّ الأطباء في الإمارات، وغيرهم ممَّن تبوّؤوا مراكز مهمّة في المجتمعات، ولهم نشاطاتهم الوطنيّة وأدوارهم المميَّزة من خلال الجالية الفلسطينية، ونحمد الله أنَّ تعبَ واهتمامَ الشهيد ياسر عرفات بالطلاب أثمر، ولم يضع سُدى".

تأسيسُ جمعيةٍ لتعزيز التواصل بين خرِّيجي المدرسة
تؤكِّد آمال بكراوي أنَّ "مرور السنوات ووقوع الحروب واتِّساع المسافات لم يحل دون حفاظ خرّيجي المدرسة على رابط مميِّز فيما بينهم"، مُعلِّقةً بالقول: "لأنَّ ما يجمعنا هو فلسطين وذكرياتنا الجميلة، ولا تفرّقنا جنسية أو ديانة أو انتماء حزبي".
وتُضيف: "منذُ نحو 7 سنوات بادر الإخوة يونس وحسن بزلميط وناصر الجردي لمحاولة التوصُّل لطريقة نُعيد فيها لمَّ شملِ بعضنا، ولم تكن عملية البحث سهلةً لأنَّ خرّيجي المدرسة توزّعوا في أرجاء الدول، ومنهم مَن استشهد. وبعد رحلة طويلة من البحث والتواصل، عُقِد أوّلُ لقاءٍ ما بين الإخوة في الأردن وأوروبا وتواصلوا معنا، وقرروا إنشاء جمعية لكنَّهم لم يستطيعوا. ومنذُ عامين عقدنا لقاءً موسَّعًا في لبنان ضمَّ الموجودين هنا في لبنان والقادمين من أوروبا والأردن، وقد كان لقاءً رهيبًا مشحونًا بالعواطف والمشاعر حيثُ شعرنا أنَّنا وُلِدنا من جديد بعد 35 عامًا من الفراق. وكنا نرغب أن نلتقي في المدرسة لتنفيذ فعالية لها علاقة بذكرى استشهاد أبو عمَّار، لكنَّنا أُبلِغنا أنَّها بيعت، فتواصلنا مع سفير دولة فلسطين لدى الجمهوريّة اللبنانيّة أشرف دبور الذي أبلغنا بالتّوجُّه إلى المدرسة برفقة طاقم تلفزيون فلسطين لتوثيق نشاطنا. وبالفعل ذهبنا، وأنجزنا تقريرًا مُصوَّرًا مع أبناء الشهداء وتحدَّثنا عن تجربتنا وذكرياتنا ومرحلة وجودنا في المدرسة. وبعد لقائنا وتواصلنا تبلورت فكرة تأسيس الجمعية بصورةٍ أفضل وعلى أُسُسٍ واضحةٍ ونظاميّةٍ، بحيثُ يكون لديها عِلمٌ وخبرٌ من الدولة اللبنانية، لنُشكِّل هيكليّة تراتبيّة كاملة، وهذا ما حدث، وقد أجرينا انتخابات تمخَّضت عنها هيئة إدارية وانطلقنا على أساسها".
وتؤكِّد بكراوي أنَّ الهدف الأساسي للجمعية هو ضمان استمرار العلاقة الطيبة والتواصل بين خرّيجي المدرسة، وإيجادِ نوعٍ من التكافل فيما بينهم، وإيجاد إطار مميَّز يجمعهم على المحبّة بعيدًا عن أيّة صراعات أو انتماءات سياسية، إذ تقول: "نحن من تنظيمات سياسية مختلفة، ولكن داخل الجمعية كلُّ شخص ينسى انتماءه التنظيمي ويقول أنا فلسطيني وأنتمي لفلسطين، وحتى اللبناني يقول أنا انتمي لفلسطين، فالانتماء لفلسطين أولاً وأخيراً، ونحن نحلم أن يتعمَّم هذا النموذج على كلِّ الشعب الفلسطيني، بحيث تجمعهم المحبَّة، ولا يُفرِّقهم شيء. ولعلَّ أحد الأشياء المميّزة التي زرعها فينا أبو عمَّار هي المحبّة الفيّاضة، والتي تصل إلى حُبِّنا أشخاصًا لمجرد التحاقهم بالمدرسة في إحدى الفترات، وإن لم نلتقِ بهم سابقًا، وقد سَمَحَ تأسيس الجمعية باجتماع أجيالٍ متتابعة لم ترَ بعضها البعض سابقًا، لكنَّها تعرف وتحبُّ بعضها".
وبسؤالها حول إمكانيّة استرجاع مبنى مدرسة "بيت إسعاد الطفولة" قالت: "أخبَرونا بأنَّ سيدةً موجودةً اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية قد باعت المبنى، ونحن ننتظر عودتها إلى لبنان، لنعرف كيف تمَّ البيع، فأرضُ المدرسة كانت هبَةً، وهي خاصّة بـ"الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني"، وأبو عمَّار كان يقول إنَّ الأرض ستعود إلى لبنان عندما نعود إلى فلسطين، وبالتالي هي لا تُباع".

الثورةُ أُمُّنا.. وأبو عمَّار والدُنا
إثر وفاة والدته، التحق "أبو أحمد" سليمان في العام 1975 بـ"بيت إسعاد الطفولة"، حيثُ كان يعمل والده في مطبخ المدرسة. وحول تجربته في المدرسة يقول: "لم أشعر يومًا أنَّني في مدرسة بقدر ما كنتُ أشعرُ أنَّني في بيتٍ كبيرٍ يضمُّ أسرةً واحدةً. كُنّا جميعًا كالإخوة، ولعدّة سنوات لم نكن نعرف حتى أنَّنا من ديانات أو جنسيات مختلفة، وفوجئنا لاحقًا بأنَّ هذا لبناني وذاك أردني وآخر سوري، وهذا مسيحي وهذا مسلم، الخ. كانت علاقتنا وثيقة جدًا كطلاب ومشرفين وعمال بين بعضنا البعض، وكنا نُنَفِّذ كلَّ الأنشطة بشكل جماعي، ممَّا ولّد لدينا شعورًا وكأنَّنا بالفعل عائلة واحدة كبيرة، وحتى اليوم فعندما نلتقي نشعرُ أنَّ شيئًا ما يربطنا أقوى من كوننا مجرد زملاء دراسة. وبسبب تسمية الأجنحة والصفوف بأسماء قرى وبلدات فلسطينية كنا نشعرُ أنَّنا في وطن مصغَّر، فلم تغِب فلسطين يومًا عن بالنا، فكانت الثورةُ أُمَّنَا التي احتضنتنا، وأبو عمَّار أبانا الحنون".
ويضيف: "إلى جانب الاهتمام بالجوانب الفنيّة والرياضيّة والكشفيّة، كانت المدرسة تحرص على إحياء المناسبات الوطنية، كانطلاقة الثورة، وذكرى الشهداء، ويوم الأرض الذي كان عرسًا فلسطينيًّا بامتياز، تأتي الجماهير من كلِّ المخيّمات لإحيائه، حيثُ تتحوَّل المدرسة لقرية فلسطينية تُقام فيها الأعراس والدبكة. كما كانت المدرسة محفَلاً للّقاءات السياسية وعقد المؤتمرات، إذ كنَّا نشهدُ لقاءاتٍ ما بين ياسر عرفات وقيادات لبنانية كالإمام موسى الصدر وكمال جنبلاط ووليد جنبلاط وغازي العريضي، ومؤتمرات لاتّحادات العُمّال والطلَبة والمرأة".
وحول ذكرياته مع أبي عمَّار يقول: "خلال فترة الصيف كان معظم الطلاب يذهبون إلى بيوت أقاربهم أو عائلاتهم، فيما يبقى الأطفال الذين فقدوا والديهم وليس لهم أقارب ضمن القسم الداخلي في المدرسة، وقد حرص أبو عمَّار والقيادة الفلسطينية على عدم تركهم داخل المدرسة، لذا كان يصطحبهم في زيارات ترفيهية إلى أوروبا وإلى الدول الاشتراكية والعربية وغيرها، وقد حالفني الحظ أن أكون ضمن الفريق الذي يصطحبه، ففي العام 1976 زرتُ ألمانيا ومصر وقبرص".
ويؤكِّد سليمان أنَّ الرئيس الشهيد كان يلجأ إلى المدرسة كلَّما ضاق صدره أو شَعَرَ بالهمِّ يُثقِل كاهِلَه،ُ فتعود الابتسامة إلى وجهه عندما يرى الأطفال الذين كان يُعاملهم كأبناءٍ له، ويُردف: "حتى بعد تخرُّجهم من المدرسة، كان أبو عمَّار حريصًا على متابعة أحوال الطلاب، التعليمية والحياتية. ونلاحظُ أنَّ جزءًا كبيرًا من المرافقين الخاصّين به كان يختارهم من طلاب المدرسة لأنَّه اعتبرهم أبناءه وهُم بدورهم اعتبروه أباهم. وحتى اليوم كُلنا نبكي غيابه، ونذكرُ بألمٍ يعتصرُ قلوبَنا يومَ استشهاده، لأنَّنا فقدنا الأب الحنون العطوف الذي كان يولي كلَّ الاهتمام لأبناء الشُّهداء".