تحقيق: غادة اسعد/ خاص مجلة "القدس" العدد 342 تشرين الاول 2017

يُعاني الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة من تمييز في مناحي الحياة كافّةً، وأبرزها الصّحي، رغم كون "الحق في الصحة" حقًّا أساسيًّا مكفولاً لكلِّ إنسان بحسب مواثيق وإعلانات دولية عديدة. ويتجلّى هذا التمييز بالفرق الشاسع في الميزانيّات المرصودة والخدمات الطبيّة المتاحة لهُم، مقارنةً بالإسرائيليين، الأمر الذي ينعكس بشكلٍ سلبي على الواقع الصحي للمجتمع العربي في الأراضي المحتلّة.


إهمالٌ متعمَّدٌ لصحة الفلسطينيين
منذُ سنواتٍ طويلةٍ، يعملُ المختصون في جمعية "الجليل" (الجمعية العربية القطرية للبحوث والخدمات الصحية) على إجراء بحوث، بمشاركة أكاديميين ومختصين في مجال  الصحة، حول رداءة الواقع الصحي لفلسطينيي الداخل، غير أنَّ سلطة الاحتلال لا تأبه لواقع المجتمع العربي في منطقة الشمال التي يسكنها المواطنون العرب، بينما تنشغل وبشكلٍ مهني بصبِّ جهودها في منطقة المركز، حيثُ يقيم اليهود، مقدِّمةً لهم الخِدمات الصحية بشكلٍ كامل ودائم.
وتعقيبًا على هذا الواقع يتساءل المختص في الصحة الجماهيرية د.محمد خطيب: "كم ضحيّةً يجب على سكان الشمال أن يقّدموا حتى تتحقَّق المساواة في الخدمات الصحية بين الشمال والمركز؟! لقد صدر سابقًا عن وزارة الصحة الإسرائيلية، وبعد نضال مستمر للمنتدى المدني لتطوير الصحة في الشمال وأطر مدنية أخرى، تقرير لجنة "جروتو" لفحص مستوى الخدمات الطبية في الشمال، والذي أوصي بتنفيذ سلسلة من الخطوات لتقليص الفجوات بين المركز والشمال، ولكن تبقى المشكلة الأساسية في ادّعاء عدم وجود ميزانية لتمويل تنفيذ هذه التوصيات".
من جهته قال المدير السابق للمستشفى الإنجليزي، رئيس جمعية "تطوير صحة المجتمع العربي"، د.بشارة بشارات: "يجب علينا ألا نُسَلِّم أو نقبل بهذا الواقع الصعب، وأتمنّى على القيادة السياسية والطبيّة اعتبار صحة السكان العرب أولوية قصوى والمبادرة إلى تنظيم فعاليات نضاليّة من أجل الضغط والتأثير ومحاولة إدخال توصيات لجنة "جروتو" ضمن ميزانية الدولة للأعوام القادمة".
أمَّا مدير جمعية "الجليل" بكر عواودة فيرى أنَّ الوضع الصحي العام في المجتمع العربي في تدهور مستمر، ويُضيف: "منذ سنوات ونحنُ نرى بوضوح إهمال وعدم وجود سياسة وبرامج ناجعة ومنتظمة للحد من تفاقم القضايا الصحية، وعلى العكس فإنَّ الأمور في تدهور مستمر. فنسبة مرضى السكري مثلاً تضاعفت، وتضاعفت معها نسبة الأمراض المزمنة، ونسبة المدخنين ارتفعت، ومن المؤسف جدًا أن تتجاهل وزارة الصحة تقارير هامة من شأنها أن تُغيِّر واقع المجتمع العربي للأفضل".
بدوره يقول رئيس لجنة "المتابعة العليا للجماهير العربية" محمد بركة: "أكثر فأكثر تتَّضح صورة مرعبة للوضع الصحي، ومدى إهماله على مر السنوات، وأرى أهمّيّة كبرى لوجوب تطوير عمل هذه اللجنة، من أجل أن تكون أيضًا مرجعية مهنية للقيادة السياسية والوطنية، ومن أجل النهوض بالأوضاع الصحيَّة".

هوّة شاسعة بين المجتمعين اليهودي والعربي
عرضت وزارة الصحة ضمن تقرير "جروتو" معطياتٍ تُشير إلى الفجوات الهائلة في الخدمات الصحية المقدَّمة لمنطقة الشمال مقارنةً مع تلك المقدَّمة لسكان المركز. وقد شدَّدت على وجوب القيام بتقليص الفجوات الصحية بين الشمال والمركز، واعترفت بالتقصير، ووعدت بتقديم المساعدة لمعالجة المشكلات الصحية في الشمال في مناسبات عدة، لكنَّها تذرَّعت بأنَّها لا تمتلك الميزانيات والموارد المطلوبة، وبالتالي فلا يزال موضوع تقليص الفجوات بين المركز والأطراف خارج سُلَّم أولوياتها، الأمر الذي يؤدّي إلى تفاقم الوضع الصحي واتساع الفجوات الصحية بصورة أكبر.
وقد شمل التقرير فحصًا لمجمل الفروق بين المجتمع العربي واليهودي في مختلف الخدمات الصحية والطبية، بما فيها: (خدمات الصحة الجماهيرية، وخدمات المبيت في المستشفيات، وعيادات الأم والطفل، وتطور الطفل، والتأهيل، والشيخوخة، وصحة الأسنان، ونجمة داوود الحمراء، والصحة النفسية، والجاهزية لحالات الطوارئ، والمراكز الطبية الليلية، والقوى العاملة الطبية في الشمال).
وفي هذا السياق تطرّق تقرير "جروتو" إلى العديد من مواضع النقص والحاجات الصحية المُلحة لسكان الشمال، فتبيّن من خلال التقرير وجود فجوات في عدد الأسِرَّة للتأهيل بين الشمال والمركز، ونقص كامل في خدمات التأهيل للأطفال، ومراكز تأهيل القلب والرئتين، ممَّا يضطَّر العائلة التي تحتاج هذه الخدمات للتوجُّه إلى مناطق أخرى، معظمها بعيدة، بالإضافة إلى عدم وجود عيادات للصحة النفسية في القرى العربية، وتدني نسبة الأطباء والممرضات والمهن الطبية المساعدة في الشمال مقارنة بالمركز. وهذه المعطيات ما هي إلّا عيّنة صغيرة من النقص في الخدمات الصحية، الأمر الذي ينعكس على وضع سكان الشمال الصحي بشكل واضح، ويبرز ذلك عبر عددٍ من المقاييس الصحية، منها: تضاعف نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة في المجتمع العربي خلال العقد الأخير وانخفاض معدل عمر الإنسان المتوقَّع (أقل بـ3 سنوات من عمر الإنسان المتوقَّع في المركز)، وعدم حصول نحو ثُلث السكان العرب المصابين بأمراض مزمنة على أدويتهم لعدم قدرتهم على شرائها.
وتعقيبًا على ذلك يقول د.محمد خطيب: "على المؤسّسة الإسرائيلية أن تقوم بالعمل النزيه تجاه المواطنين العرب في الشمال كما تتعامل مع المواطنين اليهود في المركز، فلكل إنسانٍ الحق في الصحة السليمة والأمان الشخصي، والمساواة التامّة في مناحي الحياة كافّةً، خاصةً عندما نتحدَّث عن واقع صعب، ومن شأنه أن يزيد احتمال انتشار الأمراض التي يعاني منها مجتمعنا العربي في الداخل، ويؤدِّي لتفاقم الواقع الصحي العربي الذي يتراجع أصلاً بشكل خطير".
هذا وقد تناول مسحٌ معمَّق أجرته جمعية "الجليل" الوضع الصحي في المجتمع الفلسطيني في الداخل، وكشف ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الإصابات بالأمراض المزمنة، كمرض السكري (وصلت النسبة إلى 13% من مجموع السكان بدءًا من سن 21، وارتفاع ضغط الدم، وحالات الإصابة بإعاقة، والسرطان على أنواعه، وغيرها من الأمراض الخطيرة الأخرى التي تتجاهل وزارة الصحة معالجتها بشكلٍ جذري، وشدَّد على أهمية نشر التوعية الصحية والبيئية في المجتمع العربي.
إلى ذلك، يُظهِر المسح أنَّ نحو 30% من المرضى المصابين بأمراض مزمنة، لم يحصلوا ولو لمرة واحدة على الدواء الخاص بهم، وهو مؤشر خطير، ما يعني الحاجة وغياب المناليّة من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى عدم توفُّر أدوية أساسية يحتاجها المريض يوميًا وشهريًا في قرى كثيرة، ما يجبره على السفر للحصول عليها، أو يدفعه للتنازل عن الحصول على الدواء.
هذا ولفت نحو 50% من المستطلَعين بالمسح إلى ضعف إطلاعهم على الأمراض الصحية المزمنة في مجتمعهم، أو على حقوقهم الأساسية، في حين تقع مسؤولية التوعية الصحية والحقوقية على المؤسسة الإسرائيلية، وهو ما لا يحدُث للأسف، مما يحتِّم على جمعية "الجليل" كونها تعمل في هذا المجال، الاهتمام بالتثقيف من حيثُ الحقوق.