اعداد: خالد غنام أبوعدنان
خاص مجلة "القدس" العدد 335 اذار 2017

بسبب مسمار، سقطت حدوة حصان. وبسبب حدوة،  تعثر حصان. وبسبب حصان، سقط فارس. وبسبب فارس، خُسرت معركة. وبسبب معركة، فُقدت مملكة. (أُغنية من الفولكور الأمريكي)
فلسطين أرضاً وشعباً عتيقة بالتاريخ وراسخة بالجغرافيا، إلا أنها تفقد الاستقلال السياسي منذ أزلية تشكّل الدول، فهي عادة ما تكون تابعة لإمبراطورية ما، فما من عظيم حكم العالم إلا سعى أن تكون فلسطين جزءاً من مناطق نفوذه، حتى أصبح مقياس قوة الإمبراطوريات مدى قدرتها على الاحتفاظ بفلسطين لذا نعتها المؤرخون أرض العظماء وصانعة الأمجاد. إلا أن هذا لا يمنع أن الفلسطينيين لم يكونوا – عبر تاريخهم الطويل- شعباً منسياً، بل أنه شعب ترك أثراً واضحاً في كل الإمبراطوريات التي سيطرت على أرضه دون أن تسيطر على خصوصية الفلسطيني ابن الأرض المقدسة، ابتداءً بالوثنيين ثم أصحاب الرسالات السماوية. فحق القول أن مفهوم الدولة ذات السيادة السياسية لم يكن الشغل الشاغل للفلسطينيين بقدر رفضهم تغيير أسلوب حياتهم على أرضهم التي يزرعونها  بالقمح والحمص والزيتون والتين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، ويحافظون بثبات على أزيائهم الشعبية المشهورة بالأثواب المطرزة التي ترسم ما ينبت بالأرض منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، وأكثر من هذا مازالوا يتحدثون بالآرامية الجنوبية منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، فأكثر من نصف عدد الكلمات الآرامية مازالت منطوقة في اللهجات الفلسطينية المحلية. هذا التراكم النوعي للحضارة في فلسطين هو ما يعلن بصراحة أن فلسطين تملك شعباً مميزاً يرفض الالتزام بقانون الآخرين، لأنه يملك قانونه الخاص قانون الخصوصية الفلسطينية.
فلسطين محتلة من قبل الجيش الإسرائيلي حقيقة مُرَة يعيشها التاريخ المعاصر، رغم أن هناك اتفاقية أوسلو ومبادرات دولية وهناك سلطة فلسطينية تقود الشعب الفلسطيني، إلا أن كل هذا لا يمنع من أن قيود الاحتلال تعرقل الوصول إلى الاستقلال الوطني السياسي، فنحن نملك دولة دون أن نحكمها إلا أننا نسعى لنيل المزيد من مفاتيح حكمها، فهي عملية صناعة دولة رغم وجود جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، هي دولة (اللا متوقع) في زمن الفوضى الخلاقة.
فقد كتب نقولا ماكافيللي: عندما تكون الدول التي تم احتلالها، قد أَلِفَتْ الحرية في ظل قوانينها الخاصة، فهناك ثلاثة سبل للاحتفاظ بهذه الدول. الأول فهو تجريدها من كل شيء، وأما الثاني فهو أن يذهب الأمير المُحْتَل، ليقيم في ربوعها وأما الثالث والأخير، فهو أن يسمح لأهلها بالعيش في ظل قوانينها مكتفياً بتناول الجزية منهم، وخالقاً فيها حكومة تعتمد على الأقلية الموالية للحاكم. وتدرك مثل هذه الحكومة التي خلقها الأمير، أنها تعتمد في بقائها على صداقته وحمايته، ولذا فهي تبذل بالغ الجهد للحفاظ عليهما. يضاف إلى هذا، أن المدينة التي ألفت الحرية، لا تذعن بسهولة إلا إلى أبنائها ومواطنيها، وهذا هو السبيل الصحيح للاحتفاظ بها.
فما ذهب له ماكافيللي لم يكن تنبؤاً بالمستقبل بل قراءة عميقة لتاريخ حكم الشعوب، فكثيرة هي المناطق التي كانت خاضعة لحكم الدول الكبرى إلا أنها كانت تتمتع باستقلال داخلي يُنَظِّم شكل العلاقة بين المركز الامبريالي والتابع الخاضع له. وفي العصر الحديث تعد قضية كشمير من أكثر القضايا المعقدة في دراسة مفهوم الحكم المحلي أو الحكم الإداري، فهي تركيب فريد من الاستقلال الداخلي مع الارتباط الجبري مع حكومة نيودلهي وبقاء صلة الوصل مع أكثر من مليوني لاجئ كشميري في باكستان، ففي كشمير لا يوجد ولاء واحد ولا فكرة جامعة إلا أن ما يجمع الكشميريين أن كشمير لهم وأنهم أضعف من أن يحكموا أنفسهم أو يحرروا أرضهم من الاحتلال، فهذا الشكل المركب في العلاقة جعلهم ينقسمون على أنفسهم،  فمنهم  موالون لباكستان في السجون الهندية ومنهم الموالون للهند وهم من يدير كشمير عملياً وهناك أيضاً منهم أصحاب أفكار الاستقلال الذاتي يغردون بالطرف المظلم من القمر.
ومن جانب آخر نجح الأكراد بتحقيق الحكم الذاتي الحقيقي دون الحاجة لمعاداة الحكومة في بغداد أو قبول الشروط التركية أو الوصاية الإيرانية من خلال التوافق الداخلي بين القوى السياسية والعشائرية وتغليبها على الطموحات الفردية، فأصبحت أولوية السياسي الكردي البروز في كردستان لا الظهور العابر بالعواصم الكبرى، إنها واقعية الحفاظ على الذات الصغرى في حاضنتها الكبرى. ورغم اختصار النضال الكردي في شمال العراق إلا أن إفرازاته حققت الكثير من الانتصارات للأكراد في إيران وتركيا وسوريا، ومهما يكن ما تحقق بالمشروع الكردي صغيراً إلا أن الباحثين في شؤون مناطق النزاع في العالم يؤكدون أن استقلال الأكراد يسير بخطوات متسارعة نتيجة اتباع سياسة رمي الحجر الكردي في كل الماء الإقليمي مما يسبب حركات شعبية تكبر مع مرور الزمن.
السؤال الأصعب الموجه لكل حركة ثورية هو ماذا تقصدون بالاستقلال؟ هل يعني ذلك الحدود السياسية؟ أم مجرد حكم الشعب أو انسحاب جيش الاحتلال؟ لابد التريث كثيراً قبل أن نصدر أحكامنا السريعة، أو نجتر تجارب عتيقة، فنحن في زمن الفوضى الخلاّقة التي تهتم بتفاصيل التفاصيل لإحداث حركة صغيرة قادرة على تغيير شكل الأحداث الكبرى.  
فقد كتب جايمس غليك: كلمة الحد الفاصل أو الحدود المعترف فيها تعد أكبر كذبة للعدوان على الآخر، فالحيوانات المتوحشة تضع حدوداً لمنطقة نفوذها، لكن الغريب أنها تعتدي على الوحوش المعادية قبل أن تدخل حدودها، بل أنها تذهب بعيداً عن منطقتها وتهاجم مناطق الآخرين بعنف شديد، وهذا لا يمنع من أن تكون ودودة جداً أحياناً وتسمح لبعض الوحوش أن يبيتوا داخل حدودهم الخاصة، في فوضى يصعب معها تحديد شكل العلاقة بالغابة. أما كيف نصنع نحن الحدود بشكل علمي يعتمد على البحث التقني فهو لا يختلف كثيراً عن ذلك، فإذا نظرنا – على سبيل المثال – إلى شبكات الكهرباء المترابطة عند الساحل الشرقي للولايات المتحدة، لاعتبارها نظاما متذبذبا.. إنه مستقر معظم الوقت بحيث تظن أنك تستطيع توقّع ما الذي يحدث عند اضطرابه .. لكن دراسة أحواض الجواذب عند حدود الانتقال بين الانتظام والفوضى، يُكذّب ذلك الظن.. الحق أنك لا تستطيع أن تتخيل درجة تعقيد تلك الحدود.
أما قضية حكم الشعب فقد كتبت جوديث لورانس: سكان أثينا القديمة طوروا فكرة الديموقراطية، ولأول مرة بالتاريخ شارك المواطنون في إدارة الحكومة وانتخاب أعضائها، إلا أن هذا الحق كان مقتصراً على أهل أثينا الأصليين الأحرار الرجال، أي واحد من كل سبعة مواطنين أما الستة الباقون فهم ممنوعون من أي حقوق وهؤلاء هم: النساء والعبيد وسكان أثينا غير الأصليين القادمين من مدن إغريقية أخرى، رغم أنه حكم أقلية للأكثرية إلا أنها تدرس على أنها أقدم ديموقراطيات العالم.
ولعل  أهم من خاض غمار حرب الحقوق المدنية هو مالكوم إكس، وهو من قال لأنصاره: أنا جاهز للمشاركة بالمفاوضات مع السلطات من أجل حقوق الأمريكان من الأصول الإفريقية، لكن على إخواني الأفارقة أن يعوا أن المفاوضات لا تُعطي النصر الكامل، فالنصر الحقيقي تصنعونه أنتم في الشوارع، أي مفاوضات ستدخلنا في دوامة التنازلات، لقد أرسلت لي السلطات رسالة للاستعداد بالتفاوض معي عن مشاكلكم، وقالوا لي حرفياً مشاكل النيكرو! ومن هنا أقول لكم أن الرسالة عنصرية وتصفكم بالنيكرو وهي تحدد مسبقاً أن المشكلة في البلاد سببها أنتم دون أن تلوم الطرف الآخر بأي كلمة، ولا تدين القانون العنصري الذي يحرمنا من أبسط الحقوق حقنا أن نجلس بمطعم ونركب المواصلات العامة بالتساوي مع باقي المواطنين. كما قال مالكوم أكس: سمعتها بالبلاد العربية والافريقية أننا نخوض ثورة النيكرو، وكنت دائما أقول لهم إنها ثورة حقوق مدنية سلمية وهي ثورة أمريكية وسيسجّل التاريخ أن الشعب الأمريكي شارك كله بالثورة على الأفكار العنصرية والقوانين الظالمة، إنها ثورة للمساواة والعدالة بين جميع المواطنين، وهي قانون المحبة الذي يجمعنا مع باقي المواطنين.  
ومنذ نصف قرن قالت توينبي رداً على وجهة نظر اشبنجلر القائل بسقوط الحضارة الغربية الآن، لا تسقط هذه الحضارة ما دامت تستمد عناصر بقائها من ثروات الآخرين أي أبناء العالم الثالث. لهذا السبب وجد علماء الغرب في ظل الحداثة وما بعدها أي في ظل الحداثة الثالثة، أن أخطر ما يجري تسويقه في ظل العولمة من: (تصنيع الفقر، تصنيع ثقافة الكراهية، تصنيع أجواء الحروب والصدامات تحت عنوان تصادم الحضارات والأديان والأمم والهويات والثقافات، تصنيع حقائق مضللة وزائفة لتحل محل قناعات البشر الأخلاقية والعلمية والدينية والاجتماعية والإنسانية). هذا هو قانون اختلال العلاقة بين الأمم والدول والشعوب والأسواق والعلوم، الذي قلب بسببه أرباب القوة الموارد والثروات من خير لإصحابها وللبشرية بعامة إلى عبث تدفع ثمنه الشعوب الثرية المغلوب على أمرها دماً وحروباً وحصاراً وجريمة وفوضى وفساداً، والحقائق الكاشفة عما نقول هنا من آثار سلبية وزَّعت العالم إلى مترفين وفقراء محرومين مستضعفين، لا ينتهي بسببه حياة الفوضى والتخلف، إلا باعتدال الميزان وامتلاك أسلحة العلم وكشف الغطاء عن أسرارها بفضل الجهود المشتركة التي تقلل الفجوة بين جامعات العالم المتقدم والعالم المتخلف.
إذن فمسألة الاستقلال الوطني لا تُحدد بالسيطرة على الحدود ولا يمكن قياسها بمقدار الحقوق المدنية الممنوحة، ولا حتى بخروج قوات الاحتلال من الأرض، إنها مسألة شائكة بالغة التعقيد بحاجة لفهم لماذا نريد الاستقلال؟ وهذا لا يأتي بالنظر للوضع الحالي أو الوضع ما قبل الاحتلال، لأننا نتحدث عن وضع سيحدث بالمستقبل ليشكل وضعاً جديداً ليس بالضرورة له سابقة تاريخية، فمقولة العودة إلى ما قبل الاحتلال تعتبر أكبر كارثة في طريقة التفكير الكايوسية. فقد كتب دين رادين: فن اللا معقول ليس مستحيلاً، بل أن كل فكرة قابلة للتنفيذ، وسيبقى البشر يتحدون قدراتهم ليتمايزوا عن الآخرين إما من باب المنافسة على الجوائز أو مجرد غيرة حاقدة، فالإبداع سيستمر فإما أن تحاول أن تصنعه أنت أو تتقبل إبداع الآخرين، ولا يوجد أي احتمال لأن ترفضه لأن الغبار يطوي صفحات الماضي والأمطار تنبت أزهار جديدة.
فالحديث عن الاستقلال هو صناعة أحداث تراكمية تؤدي إلى صعود أفكار جديدة تكون نتيجة الإبداع التراكمي للعمل الثوري، تستقي من تجارب الماضي وتعمل على تجريب أساليب جديدة بالوقت الحاضر وتترك المستقبل يتشكل وفقاً لطموحاتنا على المدى البعيد دون أن نقيّد أنفسنا بأي ضوابط تمنعنا من تجربة أي أسلوب ممكن أن يوصلنا للهدف المطلوب، بل أننا أحياناً مطالبون أن نجرّب أساليب ليست ضمن برامج عمل القيادة، إلا أنها تتوافق مع المبادئ المحققة للاستقلال، أو كما كتبت بتول قاسم ناصر: العلاقة بين العقل الكلي والعقل الجزئي، هو الكاشف الحقيقي لجدلية العلاقة بين مكونات المجتمع بصراعه الداخلي وترابطه الاجتماعي مع تميز كل فرد داخله، فالشخصية التي تمثل المجتمع أحياناً لا تمثل نفسها بقدر تمثيلها لمجموعة الأفراد التي تمثلهم.
ففي زمن التكلس الفكري العربي تكرّس الخلل في عدم وجود جدلية واقعية ما بين الموروث وما بين الحاضر. فلقد ظلت الهوية نتاج لأيديولوجيات قائمة ولم تصل لأن تكون إنتاجاً ذا أسس أيديولوجية ضمن إطار المفهوم القومي بخصوصية الواقعية وهو ما يتضح بهذا الإرث من المشاغبة ما بين القومية واليسارية ثم ما بين المفهوم السائد والمفهوم الديني المتسلح بالموروث المسمى اصطلاحاً بالنص المقدس الكبير الذي يشمل الكتب السماوية وتفاسيرها وعلم الإفتاء وتاريخ المرجعيات الدينية.
ومن جانب آخر، لم ينجح أصحاب الدعوة إلى النزعات المادية في توليف أيديولوجيات معاصرة فظلت كل النظريات المطروحة افتراضية أو نظرية أو أحياناً قد تصل إلى حد التجريد. لا تزال العصمة قائمة حتى لدى المثقف الذي لم يخرج من إطار شوفينية الانتماء لأيديولوجيا محددة. إن المثقف العربي الموصوم بالالتزام ثبت أيضاً نوعاً من الزواج العرفي للشكل الأيديولوجي للتجربة الذاتية والانتمائية فيما كانت السلطة ملكية أو جمهورية أو حتى دينية، مشكلاً ثقافة الولاء للنظام حاكم عن طريق تغليف فكر السلطة الحاكمة على أنها معصومة وهذا ما أدى إلى تأليه الرمز وتأليه السلطة بكل أدواتها. وهنا سقط مفكرون ومنظرون في الكمين ليس فقط في أنهم يواجهون هذه العصمة بل لأنهم تمسكوا أيضاً بأنواع العصمة المؤدلجة سواء على مستوى الطرح القومي أو الأيديولوجي ثم على مستوى المنظرين الإسلاميين.
وقد كتبها بشاعرية رائعة عبد الإله بلقزيز: في الربيع الذي لا ربيع فيه، أهتاب غدي، أرى مدناً تحت الخراب تَخِرُّ، وجُنْداً من شقوق العمران يخرجون. لا شيء في المدى غير الاصفرار، وحرائق تشُبُّ في حدائق الروح والكتب. في الجوار حرَّاس لموتنا اليومي يَصْطفُّون: كجُنْد القيامة، وفي الجوارِ سُمٌّ ربَّيناه على مهلٍ من أجل جرعة أخيرةٍ للانتحار. قد كُنَّا نقرأ في السُحبِ طَالِعَنا، ونَرْقُبُ اتجاه الريح لنعرف أيّ غدٍ غدُنا، وأيّ بابٍ نَدْلف منه الأفق. تلبَّدت غيوم الربيع طويلاً وما سكبًتْ من السائل غير ما ينسكب له المُخًبَّأُ في مستودع الهُدُب. ما من كلامٍ، في معرض الموت العبثيِّ، يصحُّ في اللسانِ، ولا من عزَاء في نشيد النهاية وموعظة القتلى، فما أغنى حال أهلي عن الرثاء، وما أغناهم عن الخُطبِ.
وبمعنى آخر أننا لم نصل إلى الاستقلال أي أننا مازلنا نعيش حرقة الاحتلال ومرارة الهزيمة المتكررة، وبالتالي فإن ما جربناه من حلول لمشكلتنا لم يكن كافياً لننال الاستقلال، وهذا يعني أننا إما لم نجرب الأساليب الصحيحة القادرة على حل مشكلتنا أو أن هذا يعني أننا مازلنا في مرحلة التجريب. فقد كتب الدكتور ديفيد سشوارتز: عندما تواجهنا مشكلة نصاب بالتردد ماذا علينا أن نفعل، هل يجب أن نخاف من عواقب المشكلة على حياتنا أم نخاف من قدرتنا على حل هذه المشكلة، أم نخاف من نتائج حلنا للمشكلة، باختصار المشكلة بأننا نخاف من كل شيء لا نعرفه، فالمجهول هو ذلك المسبب للمشكلة، والحقيقة أننا نحل المشاكل بشكل رائع إذا ما تناسينا الخوف، ولكي ننتصر على الخوف يلزمنا ثقة بالنفس، وهي بحاجة لتدريبات كثيرة نُسميها التجربة المكتسبة، الناتجة عن تراكم تجاربنا الشخصية، لذا فإننا لن نتعلم بناء الثقة بأنفسنا إلا إذا واجهنا مشاكلنا بنفسية التحدي التي تؤمن أننا قد نصيب وقد نخطئ لكننا على كل الأحوال سوف نكسب أننا مررنا بتجربة مهمة في حياتنا تعلمنا منها وأثرينا سجل تجاربنا الشخصية.  ومن زاوية أخرى فإننا مازلنا في مرحلة التجريب والتي ستستمر معنا حتى نحقق الاستقلال، فلا يمكن اعتماد أسلوب وحيد لاستمرار نضالنا، بل أن كل الخيارات تبقى مفتوحة، وعلينا دائما البحث عن خيارات جديدة. فقد كتب ألان أنجيس: إن الإزاحة التي تدفعنا لنعيش يوماً آخر تنقلنا لنعيش أحداثاً جديدة، قد تبدو متكررة ورتيبة لكنها لم تحدث إلا بعد الإزاحة التي نقلتنا إلى يوم جديد، وهي كما قال لينين: أن الطبيعة تتغير وتتطور بشكل لحظي، لذا علينا أن نؤمن أننا جزء من الطبيعة بل أننا أكثر عامل متغير بهذا الكون، فلا قانون أزلياً حقيقي بل القانون بحاجة لتعديلات بشكل دوري وإلا فإننا نضع العصا في دولاب التطور فنصبح عبيد التقليد وأمواتاً بدون ديموقراطية التجدد في الثورة الدائمة للإنسان بصراعه ضد الجمود الفكري.
إن الانفتاح نحو التجديد بالأساليب يعتبر النهج الثوري السليم الذي يرسم طريق الاستقلال، وهذا التجديد يعني أن طريقة استخدامنا لأي أسلوب نضالي تتطور اعتماداً على خبرتنا المكتسبة من تجاربنا السابقة، فالتجربة لا تتكرر وإنما تعيد التشكل بقالب جديد يختلف عن الشكل الأولي للتجربة. وهذا ما استنتجه بريغوجين: التكرار لا يعني إعادة شريط السينما لمشاهدة نفس المشهد التمثيلي، فهذا ما نسميه انعكاس التكرار وهو يختلف كلياً عن الإعادة لحدث نراه مرة بعد الأخرى في الطبيعة، فالشمس التي أشرقت اليوم ليست الشمس التي أشرقت بالأمس، لقد تغيرت الشمس كثيراً لقد زاد عمرها يوماً كاملاً، حدث خلالها آلاف الانفجارات داخل الشمس، وكل انفجار أرسل لنا بعض الحزم الضوئية وهي تختلف بفروقات واضحة، إنها أحداث تحدث كل يوم بالطبيعة، كما نتنفس نحن كل يوم بل كل لحظة، أن تضع قانوناً ناظماً للطبيعة يعني أن تُلغي ابداعات التجدد فيها وأن تعيش في جمود فكرة ورثتها من يوم أمسك، فهو انقلاب للصور المنعكسة بشكل منطقي، بل هي منطق يتجدد كل لحظة.
لذا فإن قراءة تاريخ النضال الفلسطيني لا يعني أننا نستطيع أن نعيد تكرار أحداثه، بل أننا مطالبون بمتابعة المسيرة النضالية ضمن وعينا لواقعنا المعاصر. وشرحها جايمس غليك عندما كتب: قد يكون منطق ريتشارد فاينمان بديهياً عندما كتب: "يميل الفيزيائيون للتفكير في أنه يكفيهم قول من نوع ما هي الظروف والمعطيات الأولية، فما الذي سيحدث لاحقاً؟" وهذا الافتراض هو للتقريب لا للجزم أن كل مرة يتم فيها إعادة التجربة نحصل على نفس النتيجة، لكن الفروقات التي توازي رفرفة جناح فراشة في مكان ما قد تسبب بزلزال عنيف بمكان آخر، إن أساس العلم الحديث المبنى على نظرية الكايوس يقوم على دراسة تفاصيل التفاصيل بالظروف والمعطيات الأولية أكثر من دراسة حجم الفروقات في كل مرة نعيد التجربة، لأننا نبحث عن النتيجة التي تناسبنا لا عن المعطيات المتوفرة أصلاً. وهذه النتيجة توصلنا للاستنتاج الفلسفي لهيجل: أن التاريخ الحقيقي هو تاريخ وعي الانسان للأحداث وتطور معرفته وتعلمه مما سبقه من شعوب، دون أن يعني ذلك أن هناك وعياً ثابتاً تتناقله الأجيال، بل هو عملية تراكمية تكون تصاعدية بنائية أحياناً، وأحياناً أخرى تكون تنازلية هادمة، فلا قانون يحكم الوعي فهي تجربة شخصية لكل فرد بهذا الكون.
فمسألة وضع قانون يعني أننا نقيد أنفسنا بضوابط تحكمنا دون أن نضع عقبات تبعدنا عن الوصول لهدفنا، ومسألة الالتزام بقانون الثورة تسببت بشروخ عميقة في تيمور الشرقية بعد انتصارها، بل أنها مازالت تعيق تشكّل الديموقراطية داخل البلاد بعد استقلالها، وقانون الثورة وهو العائق الحقيقي لعدم تشكل حياة ديموقراطية سليمة في أفغانستان التي عادت للحكم العشائري والمرجعيات الدينية. وقد شرح بريغوجين هذه المسألة: أن نتفق على قانون معين، لا يعني أننا حقاً اتفقنا ولا يعني أن هناك فعلاً قانون عليه إجماع، فمثلاً قد نقول أن الماء مكون من هيدروجين وأوكسجين، دون تحديد عن أي الغازات نتحدث وكأنها مصنعة بالمختبر، فذرات الغازات في الطبيعة لا تخضع لقانون، ورغم أنها متشابهة إلا أن هناك فروقات بينية مثيرة للجدل، لأن تشابهها مثل تشابه شاب من الهند وآخر من إفريقيا فهما بشر لكن هناك فروقات واضحة بينهما.
فلا بد أن يبقى القانون عاملاً متحركاًَ يواكب التغير الحادث في المجتمع، ولابد أن يبقى خاضعا لرقابة الإجماع الوطني ويملك الأهلية الشعبية لإلزام الأفراد باحترامه، وإلا فإنه سيكون معيقاً للحرية وبالتالي يعد جزءا من الاحتلال المطلوب إزالته. وقد كتب مالكو م إكس: يقول أجدادنا لنا: كونوا مسالمين، والتزموا بالقانون، واحترموا حقوق الآخرين، ولكن إذا ضربنا أحدهم بيده، سوف نرسله للمقبرة! دولة القانون لا تعني قمع الشرطة للمواطنين الذين يتظاهرون من أجل حقوقهم المدنية، بل أن القانون يكفل حق التظاهر ضد القانون.
إن القانون الأساسي للثورة لابد أن يعطي كل الجماهير الشعبية حق المشاركة بالنضال دون إلزامهم بأي عقيدة فكرية مهما كانت دينية أو عرقية أو حزبية، لأن تحييد جزء من الجماهير الثورية يعني تقوية الاحتلال وبالتالي إطالة الطريق الموصلة للاستقلال السياسي، وبما أننا في الثورة الفلسطينية واجهنا أفكاراً حزبية يسارية وأخرى دينية يمينية حاولت اختصار الثورة بمن يؤمن بأفكارها، كان من الضروري تفنيد حقيقة أن فكرهم منغلق غير قادر على التجدد وتحقيق النصر وصناعة الاستقلال السياسي.
فقد كتب الرفيق صلاح صلاح: انقلاب على انقلاب، النحلاوي ينقلب على النحلاوي والبعثي أمين الحافظ ينقلب عليه. البعثيون والقوميون أطاحوا في 8/3/1963 حكم النحلاوي، وشكَّلوا حكومة برئاسة صلاح بيطار، شاركت فيها حركة القوميين العرب، من دون أن تدري أن هذه الشراكة لن تدوم، إذ سرعان ما تحرّك حزب البعث وانقلب على أبناء الحركة وشركائه الناصريين ليستفرد بالحكم. وعاد وضع سوريا إلى الضباب. ومن أجل الاستحواذ على السلطة، وعدم حصول انقلاب آخر، والقضاء على أي منازع، بدأ البعثيون في مطاردة من يفترض أن يكون شريكهم في الحكم، والمعنى هنا حركة القوميين العرب، ومعهم الناصريون، وكل من ينادي بعودة الوحدة.
ومن ناحيته كتب رفيق نصر الله: الدين السياسي الذي بدا في أهدافه أنه يريد الذهاب إلى السلطة وليس لحماية الدين وحفظه وإن كان الادعاء عكس ذلك. ثمة حركية للأشياء قد يحسب لها حساب في المنهج والممارسة وهذا يؤدي بنا إلى إنتاج قواعد جديدة تفرض نفسها بقوة حركية هذه الأشياء. ربما واجه العقل العربي الإسلامي هذه الأشياء بحركيتها ولكنه تعامل معها وفق النص الثابت الذي لا يتبدل، وظلت هذه الحركية للأشياء المؤثرة خارج سياق التأثير على النص المعقد.
من هذه الحركية للأشياء ظهر التناقض التاريخي بين السلطة كخلافة أو غيرها والمواطن،  وظهر ذلك الخوف الذي أنتج حالة من العلاقة بين السلطة كسلطة و بين المواطن الذي كان يجد اللجوء إلى الدين ملاذاً له فجنح البعض إلى التفسير المتشدد للنص الديني فبرزت حالات التطرف وترد السلطة بالدين لتقضي على هذه الحالات وحتى على الفرد نفسه. إنها حالة الخوف التي أرستها السلطة الدينية، فها هو الحجاج بن يوسف الثقفي يقول: ليس مهماً أن يحبني الناس، المهم أن يخافوني.
فلا يوجد دولة إسلامية تتوافق مع مفهوم دولة المواطنة الغربي الذي يقوم على مؤسسات منتخبة وتعددية سياسية وتداول للسلطة، بل أن تاريخ الدولة الإسلامية عبر العصور عبارة عن هيكل أمني تنخرط فيه المبايعة والمعاندة في الصراع الداخلي وأحياناً المقايضة بين نخب الرأسمال الاجتماعية وخاصة بين ذوي النفوذ العسكري أو التهادن الداخلي من أجل قتال الآخر مع الاتفاق المسبق على تحاصص الغنائم. هذا ما ينعته العلماء الغربيون على السلطة العربية العتيقة وهي ثقافة الانتماء القبلي وهي المسبب الحقيقي. إن الفرد العربي بقي متحركاً بجغرافيا السياسة حيث الولاء السياسي يحتم عليه التمسك ببداوة الانتماء للمكان، فهو ينتمي للسلطة الحاضنة ويهرب من السلطة الساخطة دون أن يكون له خيار البقاء في بلده الأصلي لأن الصوت المعارض أمامه خياران إما الهرب خارج حدود السلطة أو الموت عقاباً لمعارضته للسلطة. فثقافة الانتماء القبلي لم تدفع الفرد أو الرعية إلى معرفة حالة كيانية اسمها المواطنة. لم يكن هناك وطن له دلالاته ومعالمه الاجتماعية وحتى الحدودية في العرف الانتمائي. بل كانت تشكيلة من انتماء ديني وارتباط قبلي بالفطرة الغرائزية. لأن الفرد ارتبط بمركزية السلطة عبر حالات غير محددة من الولاءات التي كثيراً ما كانت ترتبط بمبايعة الخليفة كولاء أو التمرد على الخليفة كمعارضة.
إن نقد التجارب العربية اليسارية والدينية يوصل إلى نتيجة واحدة، أن الغالبية غير المنتمية حزبياً للحزب الحاكم لن تشعر بالاستقلال السياسي، ولن تستطيع أن تكون فاعلة في ظل أجواء حاكمة لا ترحب بأي إنتاج شعبي لا يتماشى مع الرؤية الحزبية الحاكمة. وكأن المجتمع مختصر بالحزب الحاكم أما الباقي فهم المطلوب منهم الخضوع لقوة الحزب الحاكم، ومن هنا نستطيع أن نصفه بالاستعمار الداخلي للمجتمع حيث يفقد الأفراد القدرة على الإنتاج الحر ويتقيدون بالقانون خوفاً من العقاب دون أن يعني أن هذا الوضع سوف يستمر للأبد، لأن الطبيعة البشرية مفطورة على الحرية. وقد كتب برتولت برَخْت: "قال الصبي: لقد تعلّمَ كيف تنحت المياه الساكنة الصخور الصلبة. بكلمة أخرى، إنّ تلك الصلابة إلى زوال".
إلا أن الظلم الواقع على الطلائع الثورية ذات فكر تنويري جعل الشعب يصدق الأحزاب الحاكمة بأنهم فئات ضالة ويعملون لمصلحة أعداء الوطن، لذا فإن قمعهم من ضرورات الحفاظ على الوطن، بل أن الأجهزة الأمنية تعتبرهم العدو الأول للحزب الحاكم. وقد أوضح جوك هاسويل مسألة الأمن الوقائي فكتب: ليس مهماً كم عدد الجواسيس الذين تزرعهم في المعسكر الآخر مقارنة بقدرتك على كشف ما يُزْرَعْ من جواسيس في معسكرك أنت، فالجاسوسية هجوم وكشفه يسمى وقاية، وهي تبدأ صغيرة من مفهوم التسريبات الصحفية وكلمات عابرة في حفلات للنخب السياسية إلى أن تتهاوى الحصانة الواقية لنا، وقد يكون من المستحيل أن نحقق وقاية مثالية لذا لا يوجد جاسوسية مثالية.
بل أن خلط المفاهيم بين العمالة للعدو ومساندة المقاومة تدخل في ثنايا الدجل الحزبي الاستبدادي مما يمنع المواطنين من حق التمييز بين العدو والصديق وقد شرح د. عادل سمارة هذه النقطة في إسهاب نذكر منه: أن التطبيع والتطبيع المعكوس، هو أن بعض العرب يأتون إلى الكيان الصهيوني حجيجاً على جماجم حق العودة، فيلاقيهم بعض عرب 1948 في حالة من التطبيع معكوساً لكي يحتفل الطرفان في دول الطوق. أما أصحاب التطبيع معكوساً فيلبسون اليوم رداءً قومياً.
لكن الشعوب المُضْطَهَدَة تُفضل التغني بالتاريخ، وترسم صوراً أسطورية لشهداء الاستقلال ومقاومة الاستبداد، دون أن تصل لمرحلة معايشة نضال وخلق أسطورة حية من ثوار حقيقيين يعملون من أجلهم. وبهذا كتب تشيسلاف ميلوش: غالباً ما يقودنا ميلنا الطبيعي لوضع الممكن في خانة الماضي، إلى التغاضي عن تحرّكات معاصيرنا الذين يتحدون على أن هذا النظام النمطي للأمور الذي يُفترض أنه لا يتزحزح، ويُحقّقون ما يبدو للوهلة الأولى مُتعذّر التحقيق وبعيد الاحتمال. وأيضا ذكر جاك دوفالي أنه: لا يقوم تاريخ اللاعنف على تعاقب أشخاص مثاليين وشهداء ظرفيين وقلّة من دعاة التحرّر من ذوي الشخصيات الآسرة. إن أساس القصة الفعلية لتاريخ هذه الحركة اللا عنفية مواطنون عاديون ينجذبون إلى قضايا كبرى تنطلق من تحت إلى فوق.   
ومن هنا تكون الأفكار اليسارية والدينية غير مؤهلة لإيصالنا للاستقلال الوطني، بل أنها كانت دوماً تدفع بشكل ارتدادي القضية الفلسطينية إلى مستوى قضية ثانوية، إذا ما قورنت بالقضايا الأساسية عند منظري هذه الأفكار والتي تشمل على ضرورة استلام السلطة السياسية والترويج لفكرة الوحدة العربية والخلافة الإسلامية. ورغم أن الثورة الفلسطينية لم تعارض هذه الأفكار بشكل قطعي، إلا أنها وضعت القضية الفلسطينية كمفتاح أولي للوصول لأهداف اليمين الديني واليساري الأممي في إحداث التغير المنشود في المنطقة العربية. إن الوطنية القطرية بمفهومها اليساري هي أقرب صورة إلى الليبرالية الجديدة بمفهومها الاقتصادي، وتقوم أساساً على أن عماد مكونات الدولة هو الشعب وقدرته على إدارة شؤونه، دون شروط الاكتفاء الذاتي أو الانحسار بالاقتصاد المغلق، بل أن أفراد شعب ما، قد يكونون مفيدين لاقتصاد بلادهم إن هم ساهموا في نهضة اقتصادية بدولة أخرى، دون أن يُسقط منهم حقهم بالانتماء لبلدهم الأصلي. فهذه المرونة التي تتصف بها الوطنية القطرية جعلتها تكون الرائدة بمفاهيم حرية تنقل الأفراد والبضائع يسبق اتفاقية التجارة العالمية ونظام العولمة بعقدين من الزمان. فهي التي طرحت فكرة أن تشابه المنتجات الاقتصادية يؤدي إلى خفض الانتاج إلا إذا تم تصريف منتجاتها في الأسواق الدولية، وأن مقدار الطاقة المهدورة بالعملية الانتاجية لابد أن يتناسب مع سعر المنتج بالأسواق العالمية، وإلا فإن الاقتصاد يبدأ بالكساد بسبب سوء استخدام الطاقة الانتاجية. وقد شرح قضية تبدد الطاقة جايمس غليك فكتب: ونحن صغار قالوا لنا أن الطاقة تتحول من شكل إلى آخر، إلا أنها لا تستحدث من عدم كما أنها لا تفنى، أي أن الطاقة موجودة من بدء الحياة وسوف تستمر حتى آخر يوم لنا على هذه الأرض. إلا أن علم الانتروبيا يدرس مقدار ما يتبدد من طاقة، هذا التبدد المستمر يتعاظم كل يوم، إننا نرسل طاقة ضوئية خارج الكرة الأرضية بمقدار عال جداً، كما أن هناك غلافاً حرارياً يحيط بغلافنا الجوي، إن مقدار التبدد بالطاقة يصلح لدراسة مدى اللا انتظام في الأرض.  
ومن هنا تكون الوطنية القطرية أكثر النظم انفتاحاً على العالم وهي الأقدر على صناعة الاستقلال، إلا أن تجربة التيار الوطني في فلسطين المتمثل بحركة فتح، سُجل عليه الكثير من الانتقادات الداعية إلى ضرورة تصويب مسارها والاستفادة من تجربتها الطويلة في قيادة العمل الوطني الفلسطيني.
فقدّم الأخ ماجد كيّالي نقداً بناءً كتب فيه: إن انخراط القيادة الفلسطينية بالعملية السلمية أدى إلى تحولات داخلية متتالية: أولها انتقال جسم الحركة الوطنية من الخارج المشتت إلى الداخل المركزي، وهذا سبب تحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة حاكمة. وتبع ذلك تخلي حركة فتح عن الخيار العسكري وانتهاجها العمل السياسي ثم تجميد العمل السياسي أثناء انتفاضة الأقصى  مقابل التصعيد العسكري ثم العودة للمفاوضات وتوقف العمل العسكري، دون أن تملك خيارات أخرى أو قدرتها على الموازنة بين النهجين معاً. كما أن تبني فتح للسلطة الوطنية أدى إلى تحولها لحزب حاكم عليه واجبات خدماتية تجاه المجتمع كما له حقوق الولاء الشعبي، مما أدخل مفاهيم الفساد المالي والأخلاقي في الوصف الشعبي لكوادر فتح، وهذا ناتج عن أدائهم بالسلطة لا أدائهم في فتح. ومن جانب آخر تم تهميش منظمة التحرير الفلسطينية وإعطاء كل الدور لمؤسسات السلطة، رغم أن هذا الوضع يكون طبيعياً في ظل انتصار الثورة، أما في وضع الحركة الوطنية الفلسطينية فإن استمرار الاحتلال وكذلك الانقسام الداخلي يوجب وجود جسم حاضن للكل الفلسطيني إلا أن السلطة تحولت إلى سلطتين والاحتلال يسيطر على الأرض ويتحكم بالحدود وتوريد الماء والكهرباء والطاقة. كما أن هناك تحولاً في السياسة الخارجية لفتح في ظل السلطة حيث تم تعزيز العلاقات مع الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما انهارت الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي.
وفي بحث آخر مهم قدّم الأستاذ أسد غانم قراءة أكاديمية للوضع الفلسطيني فاستنتج: إن توقف المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية لمدة طويلة، واستمرار الانقسام أيضاً، قد يكون له أسباب منطقية لدى السياسيين، لكن الفئات الشعبية لا تملك القدرة على تجميد حياتها لفترة طويلة، مما يعني أنها تتعامل مع الواقع وكأنه سيستمر للأبد، فهي تعمل بانتهازية نتيجة ظروفها المعيشية الصعبة، وهذا السبب الحقيقي في هبوط شعبية التنظيمات الفلسطينية، وتصاعد العنف المضاد لممارسات جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، فهناك غضب شعبي على الوضع القائم وعلى كل الأطراف في المعادلة السياسية ويجاوز هذا الغضب الحدود الصغرى للصراع، ليصبح غضباً على كل القوى الإقليمية والدولية.  
هذا الغضب الفلسطيني الشعبي يدلل على وعي عالٍ للشعب الفلسطيني، بأن العدو ليس مجرد جيش الاحتلال الإسرائيلي بل أن هذا الجيش مجرد أداة تحركها القوى الدولية العظمى. فقد ذكر الفيلسوف ريتشارد بوبكين (كتاب المواجهة بين عصر العقل وعصر الرؤيا): إن الإنكليز على طرفي المحيط الأطلسي أكثر حماسة من اليهود لتأسيس الدولة اليهودية وبناء معبد سليمان، وإن صهيونيتهم هي التي صنعت الحركة الصهيونية وانتشلتها من هامشيتها. نعم الصهيونية الأنكلو سكسونية هي التي صنعت الصهيونية اليهودية، وهي التي رعتها وغذّتها وأعطتها زخمها بالقوة والسلاح، وبالتدمير المنهجي للعالم الإسلامي والعربي، وبمكاتب الشؤون الهندية التي أسسها بيرسي كوكس في أوائل القرن التاسع عشر في الكثير من العواصم العربية لتكون شريكاً للمشروع الصهيوني في فلسطين. اليهود يريدون ما يسمونه أرض إسرائيل، أما الإنكليز على طرفي المحيط فيريدون أرض إسرائيل وإسماعيل وإبراهيم، يريدونها خالية من سكانها تماماً.
وعلى الرغم من أفول قوة بريطانيا العظمى وانهيار إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس، إلا أن هذا لا يعني أن خططتها لم تستمر بالسيطرة على العالم ولكن تم نقل مركز الامبريالية من لندن إلى قيادة البيت الأبيض الأمريكي، فقد كتب بيتر تايلور الكاتب الاستراتيجي البريطاني: إننا نفسر الحربين العالميتين بأنهما منافسة على وراثة الإمبراطورية البريطانية بين الولايات المتحدة وألمانيا، وعندما نقول أن الولايات المتحدة ورثت بريطانيا، لا يعني أن بريطانيا انتهت بل أنها أصبحت أقوى حيث يتم تنفيذ مخططها  بإدارة الدولة الأقوى في العالم وهي الولايات المتحدة التي تعمل وفق المخطط البريطاني القديم ولكن بأدوات تتلاءم مع المتغيرات الدولية.
بل أن المشروع التوسعي المسمى أمريكا التوتالية حاكمة العالم بالبسطار العسكري لها تاريخ دموي طويل، ودائما يكون خطابهم الديني يعتمد على ضرورة قتل الكنعانيين (أي الفلسطينيين) فهم البشر المتوحشون، وكثيرة هي أدبيات عصر الكاوبوي التي تصف الهنود الحمر أنهم كنعانيو أمريكا. وقد قدّم الأستاذ منير العَكش شرحاً مفصلاً لهذه القضية نذكر منها: إن الإنكليز -الذين يدّعون تفوقهم العرقي-  عندما استوطنوا أمريكا بين الأعراق الوضيعة أصبحوا بسرعة سادة الأرض وأصحابها وراحوا بالتدريج يستأصلون السكان الأصليين.. فالهندي الأحمر كالكنعاني (الفلسطيني) المتوحش منذور للفناء، فالإبادة هنا عمل ضروري لا غبار عليه لأن القوي، حيثما كان، يبتلع الضعيف مثلما أن النبات والحيوان الأقوى يقضي على الأضعف. كذلك فإن العرق المتفوق يستأصل الأعراق الوضيعة.
لذا لابد من دراسة القضية الوطنية في فلسطين ضمن منظور تشابك العلاقات بين الوطنية والقومية والدينية لكلا طرفي المعركة في فلسطين وإسرائيل ودراسة قدرة كل طرف على التأثير على الآخر ومتانة علاقته مع حلفائه وأصدقائه بالعالم، وبالتأكيد أن أي تقييم يكون على أساس التبادلية النفعية بين العالم وبين إسرائيل وفلسطين، فبينما تصنف إسرائيل على أنها بلد جاذب للماضي الديني واللغوي في عصر ابتعاد سكان العالم الغربي عن أداء الطقوس الدينية، ومن جانب آخر فإن الترسانة العسكرية الأمريكية تملأ دول الشرق الأوسط، تكون إسرائيل فقدت قدرتها على أن تكون نافعة في علاقاتها مع الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، إلا متانة العلاقات السياسية والعسكرية لا يعني أن إسرائيل هي الحليف الوحيد للولايات المتحدة الأمريكية، حتى أن شخصية مثل شاه إيران في فترة الستينات كان أهم بكثير من إسرائيل نفسها. ومن جانب آخر لا تبدو فلسطين كدولة ذات أهمية كبرى بالموازين الدولية، بل أنها أصغر من أن تؤثر على أي قرار دولي فهي قليلة المواد الإنتاجية مقارنة بدول المنطقة الغنية، إلا أن فلسطين هي عنوان الانفتاح الاقتصادي على المنطقة العربية بشكل خاص وكافة أنصار فلسطين بالعالم بشكل أوسع، والحقيقة السياسية تؤكد أن أي دولة أو مؤسسة أو فرد يصل إلى قناعة بالقضية الفلسطينية، فإنه سيستمر بدعم القضية الفلسطينية للأبد، وهذا بعكس الإيمان بفكر الحركة الصهيونية الذي تتضاءل شعبيته بشكل متواصل دون أن يمتلك القدرة على استقطاب أعداد جديدة تتناسب مع الأعداد المنسحبة من تأييد فكرهم.  
وإذا ما عدنا لما كتبه الأخ أبو مازن قبل أربعين عاماً عندما كتب: إن استمرار تطوير الآراء داخل المجتمع الإسرائيلي يحتاج إلى استمرار النضال الفلسطيني العسكري ليقنع الرأي العام في إسرائيل أن الأرض التي يعيش عليها ليست ملكه وإنما اغتصبها من شعب له مقومات الشعب حاول أن يعود إليها بالسلام فلم يستطع، لذا لجأ إلى العنف وإلى القتال كوسيلة لابد منها للعودة. ولكن إن فعل النضال المسلح فعله في تغيير قناعات الإسرائيليين فإن الواجب علينا أن نتابع تكور وتغيير هذه الآراء والمناحي التي تتجه إليها وهذا يتطلب جهداً عملياً كبيراً من أجل دراسة المجتمع الإسرائيلي ومعرفة تفاصيل التفاصيل فيه، لذلك لابد من تغيير أسلوب تعاملنا وتفكيرنا ونمط عاداتنا هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يكفي أن نتابع تطور التغيرات الطارئة في المجتمع الإسرائيلي وإنما لابد أن نعمل على تطويرها من خلال الحوار والطرح السياسي الذكي الذي يستفيد من كل الظروف، ولا بفهم الحوار على أنه حوار رسمي وإنما حوار الأفراد والأشخاص بل هو حوار الضحايا التي تبحث عن غريمها ومسبب نكبتها.
قد تكون كلمات الأخ أبو مازن بحاجة لنفض الغبار عنها لأنها كتبت لتتناسب مع ظروفها التاريخية، إلا أنها تحوي الكم الكافي من آلية التعامل مع المجتمع الإسرائيلي وضرورة تفكيك الفكرة الصهيونية والتعامل بواقعية تتفاعل بشكل دوري مع كل ما يدور بالمجتمع الإسرائيلي، لأن التعامل مع كل إسرائيلي أنه نسخة طبق الأصل عن باقي الإسرائيليين يشكّل عقبة حقيقية بفهم نظرية الكايوس التي تطالبنا بضرورة دراسة تفاصيل التفاصيل. وقد كتب مارسيلو سفيركي توضيحاً علمياً لمفهوم دولة المستوطنات: إنه شعب آخر اسمه شعب المستوطنات يختلف جذريا عن الذين يسكنون داخل المدن والقرى الإسرائيلية، يختلفون عنهم بكل شيء حتى بشكل العلاقات الاجتماعية، إن إعلان ضم المستوطنات لإسرائيل والتعامل معها على أنها بلديات تابعة لتل أبيب يشكل هاجساً ثقافياً واجتماعياً لدى غالبية سكان إسرائيل، فهؤلاء يعيشون في معازل منبوذة من محيطها، فهم مازلوا يحملون عقلية الغيتو وهذا أكبر خطر على أسلوب الحياة الإسرائيلية المعاصرة.
ومن جانب آخر لابد أن يتفهم الإسرائيليون والعالم أجمع، أن حق تقرير المصير والاستقلال الوطني السياسي، غير مرتبط بقوة الاقتصاد الفلسطيني ولا بدرجة الديموقراطية في فلسطين، بل أنه حق شرعي لشعب خاضع للاحتلال ويناضل بكل الوسائل لنيل استقلاله وتحقيق السلام الشامل والعادل. وبكلمات أخرى قال المفكر الفتحاوي الكبير الأخ أبو السعيد خالد الحسن للأوروبيين: إن الاقتصاد يمثل شريحة أساسية من حياتنا، وأنه من حق كل شعب أن يعمل من أجل رفع المستوى المعيشي لأفراده، ولكن التاريخ لم يسجل أبداً: أن مسيرة السلام قامت على أساس الاحتياجات الأنانية. إن السلام حالة عقلية وليس حالة مادية. كذلك من السهل اتخاذ قرار للعمل من أجل رفع مستوى الاقتصاد أو الأمن. أما العدالة والسلام، فالعمل من أجل تحقيقهما يحتاج إلى جهد كبير ينطلق من الإيمان بالعدالة والسلام، حتى نبدع أفكارنا المنطلقة من العدالة والمتجهة إلى السلام والديموقراطية والحرية.  
إن الاستقلال السياسي لفلسطين يتوافق مع نظرية كايوس الفوضوية بكل مكوناتها الفلسفية والتجريبية، وهي تتواءم مع روح الفوضى الخلاّقة الحاكمة لنظام العولمة، مما يعني أن تحقيق الاستقلال لن يكون ضربة حظ، ولا هبة من القوى العظمى، ولا حتى قناعة إسرائيلية، بل أن الاستقلال الفلسطيني سيكون نتيجة تراكمية لاستمرار النضال الوطني الفلسطيني بكافة الخيارات المتاحة، ومهما سعت الحركة الصهيونية لعرقلة هذا الاستقلال إلا أنه يشكل حقيقة علمية تنتظر تحقيقها المراكز البحثية في علم الكايوس، وكل أحرار العالم. 

المراجع:

1. فلسفة بريغوجين الكايوسية تأليف أ.د. علي حسين الجابري/ دار ومكتبة البصائر – لبنان- 2014
2. نظرية الفوضى (علم اللا متوقع) تأليف جايمس غليك/ دار الساقي – بيروت - 2008
3. عباءات وخناجر تأليف رفيق نصر الله/ بيسان للنشر والتوزيع/ دار بيسان للنشر والتوزيع – لبنان – 2017
4. فتح 50 عاماً (قراءة نقدية في مآلات حركة وطنية) تأليف ماجد كيّالي/ مركز مسارات – فلسطين – 2016
5. تحت خط 48 (عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافي) تأليف د. عادل سمارة/ بيسان للنشر والتوزيع/ دار بيسان للنشر والتوزيع – لبنان – 2016
6. القضية آفاق جديدة تأليف الأخ أبومازن محمود عباس/ دار القدس – بيروت -1978
7. فلسطين وأوروبا (دبلوماسية المواجهة) تأليف الأخ خالد الحسن/ دار الكلمة للنشر – بيروت- 1981
8. على صهوة الكلام تأليف عبد الإله بلقزيز / منتدى المعارف – بيروت – 2016
9. من ضفاف البحيرة إلى رحاب الثورة تأليف صلاح صلاح/ دارالفارابي –بيروت -2016
10. حركات ثورية (قصص شعوب غيّرت مصيرها) تأليف ستيف كراوشو وجون جاكسون / شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت - 2012
11. أمريكا والإبادة الجنسية تأليف منير العَكش/ رياض الريس للكتب والنشر/ لبنان – 2012
12. الأمير تأليف نيكولا ماكيافيللي/ دار الحكايات – بيروت - 2006
13. A Rebel’s Guide to MALCOLM X BY ANTONY HAMILTON, BOOKMARKS PUBLICATIONS - 2016
14. Palestinian Politics After ARAFAT by As’ad Ghanem, INDIANA University Press - INDIANA– 2010
15.    After Israel (toward cultural transformation) by Marcelo Svirsky , ZEDBOOKS-NEWYORK- 2014
16.    Magic Of Thinking Big by David Schwartz – published by Simon & Schuster –NEWYORK - 1987
17.    Facing The Anthropocene by Ian Angus, Monthly Review Press – NEWYORK – 2016
18.    Discovering The Past by Judith Lawrence and others – The Jacarada Press,Sydney/ Australia, 1982
19.    Spies and Spying by Jock Haswell, The Magnet Book, London/UK, 1987
20.    Entangled Minds by Dean Radin, Paraview Pocket Books, NEWYORK, 2006