يحملك الشوق الى أماكن غير راغبة في استقبالك، وسرعان ما تتحول الى أماكن طاردة لك، فيعود التيه رفيق خطواتك، وتبحث عن أماكن تحمل دفء الألفة، ولكن أين تجدها وأنت فلسطيني ملعون القدر!

منذ أزمان، مع بداية شباب نما على عشق مصر، كان حلم زيارتها، يلحّ عليّ. وفشلت كل محاولاتي للحصول على تأشيرة سياحية. غفا الحلم ثلاثين سنة، وصحا على كابوس توقيف مزعج مذلّ مهين، في مطار القاهرة.

ذات سنة جاءتني فرصة للمراوغة والاحتيال، لزيارة مصر. حيث سُمح للطلاب في لبنان، بدراسة التوجيهي المصرية في لبنان، ويحصلون في نهاية العام على تأشيرة دخول مصر لتقديم الإمتحان. وتقوم مكتبة العرفان، في بيروت، بتأمين كافة الإجراءات. فانتقلت من صف البكالوريا الثانية اللبنانية، الى المنهج المصري. لم يكن سهلا علينا الانتقال من دراسة المواد باللغة الإنجليزية، الى اللغة العربية، سيما لناحية المصطلحات، التي كانت تُضحكنا أحيانا.

مضت السنة الدراسية، ونحن نتشوق لرؤية مصر، أكثر من اهتمامنا بالامتحانات! قبل موعد الامتحانات بأسبوعين، نزل علينا خبر كالصاعقة. تقديم الامتحانات سيكون في عمان وليس في مصر. 

فكانت رحلتي الثانية الى عمان. رحلتي الأولى كانت برفقة أمي، وكنت في السابعة من عمري. لا أذكر منها الا الفساتين البيضاء الجميلة التي اشترتها لي خالتي، وجدتي لأبي التي لم تكن حنونة ولا لطيفة ولم تكلف نفسها عناء النظر الى أحفادها الذين تخلت عن أبيهم وهو طفل صغير. وأذكر مسبح أحد عمومتي في حديقته. صور يعلوها غبش التاريخ. لكنها كانت رحلتي الثانية.

وصلت خطواتي للمرة الثالثة الى عمان، ولمدة لم تتجاوز الأسبوع، وفي ظروف حزينة على أثر فقدي لطفلي. خلت أن عمان ربما تمنحني بعض السلوى. لم تحتمل روحي البقاء، وكنت على قلق كأن الريح تحتي، فغادرت على عجل.

أخذتني الحياة في متاهات متناسخة، ونسيت الموضوع. رغم أني لم أتوقف عن إطلاق وعودي الوهمية لأختيّ، حتى صار الحلم حقيقة. وكانت رحلتي الرابعة، قبل أسابيع. وكان شفيعي في رحلتي القديس المبارك، جواز سفري النرويجي، الذي فتح لي كل آفاق العالم، أمشيها بتيه وخيلاء، ولا أخشى في المطارات وعلى الحدود، لومة لائم.

حملت لي عمان هذه المرة، تشكيلة أفراح متنوعة. لقاء عائلة لم أعرفها من قبل. أختي الصبية الجميلة، صار لديها أحفادُ أحفاد! كان الفرح عائليا وخاصا. وعرفت أبناء وأحفاد عمومتي، من الشبه المتوارث عن آبائهم. مرض خالي، جمع العائلة حوله، من بلاد قريبة وبعيدة. تأملت بالمجتمعين.. من جاء من أوروبا وأميركا واسكندينافية.. عائلة واحدة تبعثرت في أمكنة متباعدة جغرافيا وثقافيا، والطبيعي أن تلتم العائلة من بيسان ورام الله والناصرة والرامة والجاعونة، وتلتقي في عكا أو أي بقعة في الوطن المحتل! لكنه القدر الفلسطيني..

وفي معرض الكتاب، التأم شمل القادمين من الوطن، والراحلين عنه قسرا. أدهشني في أحاديثهم، ألفتهم مع الأمكنة التي جاؤوا منها، والزيارات التي يتبادلونها، وتنقلاتهم بين مدن وقرى، كنا نحسبها خارجة من أساطير الآباء، وخرّافيات الجدات، وليس لها وجود في الواقع العملي.

وهنا التقينا، أشخاصا، عرفناهم لأول مرة، ولم يكن بيننا مشاعر غربة، جمعتنا في المطاعم جلسات عشاء وأحاديث طويلة، امتدت حتى منتصف الليل. أعترف أني احتفيت بالناس، أكثر من احتفائي بالمكان، فهم روح المكان ونبضه.

التقيت شعراء وكتابا، لم تصلنا كتاباتهم، لأسباب خارجة عن نطاق المعقول، في عالم قائم على التزوير والتشويه. وأعدت التواصل مع أصدقاء لم أرهم من زمن طويل، وتعرفت الى أصدقاء فيسبوكيين، وافتقدت بعض من كنت أرغب في رؤيتهم، الناقد الكبير عادل الأسطة، سهيل كيوان، وزياد خداش.. لكن عمان قد تحنو علينا بلقاءات دافئة لاحقة. ثم التقيت بأحدهم وكان يحمل بعضا من ملامح أبي، فصحا حنين حارق للرجل الوحيد الذي رحل، ولم يترك أي بصمة حزن في تاريخي وفي روحي، ربما بكيت قليلا.

آخر المشاهد في مطار عمان، لطف وتهذيب الموظفين، يغريك بالشكر والامتنان لعمان.