نشر الزميل المتوكل طه في موقع "معا" مقالاً بعنوان "أزمة اليسار الفلسطيني" يوم الأحد الموافق 13 تشرين الأول / كتوبر الحالي عالج فيه من وجهة نظره أزمة اليسار، كما رآها. والمقال على أهميته، وقع في بعض الأخطاء، وأيضا غاب عنه الإلمام بأزمة اليسار الفلسطيني والعربي والعالمي، وأزمة حركة التحرر الوطني، وحتى قراءته لأسباب ولادة ونشوء اليسار الفلسطيني الجديد شابها التعثر، كما إن استنتاجاته غردت بعيدا في اللامعقول، عندما خلص إلى أنه، ليس على "يقين من وجود مساحة في الوضع الفلسطيني للمكون اليساري، لأن المسافة سياسيا بين اليسار وبين ما اصطلح عليهم باليمين الفلسطيني، واعني حركة فتح، قد ضاقت سياسيا وواقعيا". وهنا وقع الكاتب في عدم التمييز بين مسألتي الفكر والسياسة، ففي السياسة في كل الأزمان والأماكن يمكن الائتلاف بين قوى الثورة على قواسم مشتركة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ولكن الخلفيات الفكرية الناظمة لكل من اليسار واليمين تبقى لها خصوصيتها وتميزها عن بعضها البعض. 

وعلى ذكر مفهومي اليمين واليسار يسأل الشاعر طه "لماذا كانت الأدبيات تصف حركة فتح، بأنها حركة يمينية. رغم "ثوريتها"، وتنادي بإزالة الاحتلال، وبناء الدولة الديمقراطية؟". وأود أن ألفت الانتباه، إلى أن مفاهيم اليسار واليمين والوسط، لا تعني انتقاصا من أي من القوى، لأن تشخيص قوة ما باليسار أو باليمين في ساحة من الساحات، إنما يعود لخلفيتها الفكرية، وليس لانتقاص في ثورية أو كفاحية تلك القوة. مع أنه عندما ظهر المفهومان ما بين عامي 1789/ 1794 وتحديدا بعد انتخابات ايلول / سبتمبر 1792 في فرنسا (أي بعد الثورة الفرنسية)، لم يعنيا شيئا، وإنما جاء التوصيف للمواقع التي جلست فيها قوى الثورة الفرنسية داخل قاعة المجلس التشريعي، فجاء اليعاقبة على يسار قاعة المجلس، وجاء الجرونديون على يمين القاعة، وجاءت جماعة السهل في الوسط. وهم جميعا قوى الثورة. ولكن برزت بينهم خلافات في كيفية التعامل مع الملك ومخلفات النظام السياسي القديم، وحول استراتيجية حماية الثورة من خطر معارضيها، وأعدائها الداخليين والخارجيين. وكان اليعاقبة أكثر جذرية وتطرفا تجاه الملك وقيادات النظام السابق وقوى المعارضة عموما. وبالتالي لا يعني الوصف باليمن الإساءة، أو الانتقاص من وطنية وثورية هذه القوة او تلك، لأن اليمين واليسار والوسط قوى ثورة واحدة، ولكن لكل منهم رؤيته وقراءته لكيفية تطورها، وحمايتها من الأعداء والخصوم. 

وأما عن أسباب نشوء اليسار الفلسطيني الجديد، فإرهاصات ذلك تعود لأواسط الستينيات وتحديدا في العام 1964، وقبل هزيمة حزيران/يونيو 1967، حيث عاشت حركة القوميين العرب حالة جدل واسعة بين مكوناتها في اقترابها من الماركسية اللينينية، ولم تشأ آنذاك استخدام مفهوم الماركسية اللينينية، لذا لجأت لاستخدام مفهوم "الاشتراكية العلمية" تخفيفا من حدة وقع المفهوم على قطاعات واسعة من الحركة، كانت، وبقيت بعد إعلان الالتزام ترفض تبنيها، وهذا التيار أطلق عليه التيار اليميني في الحركة، ولاحقا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وأسباب ذلك تعود إلى: أولا- انتصار الثورات التحررية التي قادتها القوى الماركسية اللينينية في الصين وكوبا وكوريا وفيتنام الشمالية ولاوس وكمبوديا ولاحقا اليمن الديمقراطي (الجنوبي)... إلخ. فضلا عن تجربة دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية. ثانيا- هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 شكلت لحظة فاصلة على الإقدام في تبني خيار الماركسية اللينينية، والافتراق بين الحركة والناصرية بقيادة جمال عبد الناصر، حيث وصلت قيادة حركة القوميين العرب إلى استنتاج نظري سياسي، يقول إن الرهان على الأنظمة البرجوازية الوطنية، هو رهان خاسر، وأن فكر الطبقة العاملة، هو الفكر القادر والمؤهل لحمل راية ومشاعل التحرر والانعتاق من الاستعمار. ثالثا- يأتي دور وجود حليف وسند دولي ذات ثقل مركزي في الكون. رابعا- بروز شخصيات وأنوية تتبنى الرؤية الجديدة، مع أن الحركة بالأساس قامت بتفريغ تلك النواة لقراءة الماركسية للرد على الشيوعيين، ومنهم الرفيق نايف حواتمة. 

أما عن أسباب الأزمة، فالقراءة كانت مبتسرة وغير ملمة بكل الأسباب، ومنها: أولا- عدم تمكن اليسار الجديد من تمثيل الفكر الماركسي اللينيني، وكان هناك تشوه معرفي وفكري عام، وحدث خلط مفاهيمي، وتسطيح في قراءة الفكر الشيوعي، والتخندق في المدرسة الشكلانية على حساب التعمق النظري. ثانيا- عدم التمكن من الربط العميق بين الفكر والممارسة الثورية، والوقوع في مثالب الخطاب الشعبوي الشعاراتي الغريب والمنفر للجماهيرالشعبية، والوقوع في دائرة المنطق الرغبوي الإسقاطي المتناقض مع مصالح الجماهير الشعبية الفلسطينية والعربية. ثالثا- بقدر ما حرصت قوى اليسار الفلسطيني الجديد على الاستقلال وتحديدا الشعبية، بقدر ما فشلت في ذلك، وغرقت في متاهة التناقضات بين الفرق والمدارس الثلاث: السوفيتية والصينية والكوبية وحتى التروتسكية. رابعا- بقيت قوى اليسار عموما الجديدة والقديمة بما في ذلك اليسار الشيوعي غير قادرة، وليست مؤهلة فكريا لاشتقاق رؤية فلسطينية عربية توائم ما بين الواقع والفكر، ما بين النظرية والتطبيق. خامسا- المراهقة الصبيانية اليسارية أضعفت اليسار الفلسطيني، وتركت ندوبا كبيرة وواسعة في مسيرته الثورية. سادسا- عدم الانخراط المبكر في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والبقاء في دائرة التطير والحرد والانكفاء على الذات، مع أن الفرصة التاريخية وضعت أمام الرفيق الراحل جورج حبش بعد هزيمة حزيران 1967، لكنه رفض التقاطها، ما سمح لقيادة فتح باقتناص الفرصة، والإمساك بها دون تردد، وبالصعود على رأس منظمة التحرير. سابعا- حتى عندما ذهبت الشعبية لبناء جبهة الرفض لم تتمكن من الإقلاع بها، لأنها قامت على أكتاف قوى غير مؤهلة لحمل راية الأهداف، التي قامت من أجلها. وبقيت الجبهة اسيرة تحالفات مع قوى جذرية متطرفة ووهمية الفعل والتأثير. ثامنا- تفكك اليسار، وانغماس فصائله في صراعات فكرية وسياسية بعيدة كل البعد عن الواقع، وكانت تحركها النزعات الانتهازية، والأجندات الخاصة وفي النطاق المحلي. تاسعا- ومن العوامل الموضوعية، التي ساهمت بأزمة اليسار: 1- صعود اليمين البرجوازي العربي المتحالف مع الإسلام السياسي منذ النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. 2- انتصار الثورة الإيرانية 1979، وتمدد القوى والتيارات الدينية بمشاربها واتجاهاتها وتلاوينها المختلفة. 3- انغماس اليسار عموما مع انظمة البرجوازية الوطنية، والسير في ركابها، وعدم التمكن من إيجاد مسافة فاصلة عنها بحكم الجيوبوليتك. 4- وفي ذات الوقت عدم التمكن من بناء استراتيجية علمية صحيحة تنظم العلاقة بين فصائل اليسار والأنظمة العربية، فلجأت حينا للتناقض التناحري معها، وإطلاق الاتهامات المختلفة ضدها، وثم العودة لأحضانها ارتباطا بالخلافات السياسية الناشئة في سياق سيرورة تطور الأحداث في المنطقة. 5- حصار النظام العربي الرسمي عموما لقوى الثورة. 6- انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية مطلع تسعينيات القرن العشرين الماضي، ولغياب الاستقلالية غابت المرجعية الفكرية والسند السياسي. 7- هزيمة حركة التحرر الوطني العربية، وحركة التحرر العالمي ... إلخ. 

ملاحظة سريعة بعد 1982 أخطأ العزيز المتوكل، عندما قال لم تجد قوى اليسار استطالات وأذرع لها، وهذا غير دقيق، لأن قوى الثورة عموما بدءا من فتح والشعبية والديمقراطية والحزب، شكلت العامود الفقري لقوى الثورة، واتسع نفوذها بعد انتفاضة كانون الأول/ ديسمبر 1987 / 1993 في داخل الوطن بشكل لافت للنظر، لكن هذا التوسع التنظيمي والكفاحي تراجع بسبب قصور القوى المختلفة خاصة قوى اليسار، التي لم تعمل على تعميق الروابط مع أنصارها ومنتسبيها، وحتى نتيجة التناقضات الداخلية نفور وخروج جل الكوادر المتفتحة والأكثر تطورا من الزاوية الفكرية من جسم الشعبية، وهذا ترك بصمات كثيرة على تجربتها. 

وعن العودة عبر الاتفاق إلى الوطن (اتفاق اوسلو 1993) لم تكن العودة نقيصة، أو يفترض أن تعود قوى الثورة على ظهور الدبابات، وإنما في التاريخ كانت هناك عودة لقوى الثورة للوطن، أو مع بلوغ أهدافها الجزئية أو الكاملة استنادا إلى الاتفاقات. أما العودة إلى جزء من الوطن، فهذا يعود لتمثل كل فصائل العمل الوطني للبرنامج المرحلي. وكان هذا واضحا للجميع. وان ترفض اوسلو علنا، وتتعامل مع مفرادته على الأرض ليس عيبا، ولا يوجد فيه انتقاص من كفاحية القوى الفلسطينية المختلفة بدءا من فتح وانتهاء بآخر فصيل وطني. اضف إلى ان للتجربة الوطنية الفلسطينية خاصيتها وسماتها الذاتية، وهذا هو إسهامها الثوري للتجربة العالمية.

بالتأكيد هناك عوامل أخرى أثرت في تعميق أزمة اليسار الفلسطيني والعربي، ولكن حرصت أن أسلط الضوء من وجهة نظري على أبرزها لتوسيع دائرة الفائدة. كما ويهمني للموضوعية ووفاء للتجربة، التي تعمدت فيها في مدرسة الكفاح الوطني التحرري منذ مطلع عام 1968 حتى يوم استقالتي من الجبهة الشعبية مطلع كانون الثاني / يناير 1996، أن اسجل، ان اليسار عموما والشعبية خصوصا شكلت مدرسة مهمة في الكفاح الوطني التحرري، وكانت عنوانا للوطنية الصادقة، ولم تحد عن بوصلة الحرية والاستقلال والعودة وتقرير المصير. رغم وجود نواقص كثيرة، وهناك قصور، وأزمة بنيوية فكرية سياسية وتنظيمية ومالية وكفاحية، وأزمة قيادة.