تقرير: نجية شحادة

  ثلاثة أيامٍ مرَّت على أهالي صبرا وشاتيلا كانت كفيلةً بأن تعبر رائحةُ الدم المسفوك الحدود إلى كلِّ العالم. ففي السادس عشر من شهر أيلول عام 1982، نفَّذ جيش الاحتلال الإسرائيلي وعملاؤه من القوى اليمينية الانعزالية إبادةً جماعيّةً بحقّ سكان المخيَّمين، ما أسفر عن استشهاد نحو 3500 فلسطيني ومئات اللبنانيين، لتغدو مجزرة صبرا وشاتيلا عنوان مأساة جديدة من فصول معاناة شعبنا الفلسطيني المستمرة منذ النكبة وحتى يومنا هذا.

 

*طفولةٌ استباحتها المجازر والأهوال

عام ١٩٦٨ وُلِدَت مائدة أحمد عودة لعائلة فلسطينية هُجِّرت قسرًا من فلسطين إبان النكبة وفظائع الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحقِّ أبناءِ شعبِنا. وفي مخيَّم ضبية للاجئين الفلسطينيين في بيروت، عاشت العائلة مرارة اللجوء وآلامه. غير أنَّ إقامتهم في ضبية لم تطل، إذ عاجلت رصاصات قنصٍ من قِبَلِ الاحتلال الإسرائيلي جسدَ رَبِّ الأسرة أحمد عودة ليرتقي شهيدًا على الفور. وبعد نشوب مشكلات ووضع كنيسة المخيّم يدها على بيتهم، اضطرت عائلة مائدة للنزوح نحو مخيّم شاتيلا، ولم يكن أحدٌ يدري حينها أنَّ مأساة أخرى ستعرف طريقها إليهم، لتحفر في الذاكرة جرحًا لا يمكن نسيانه.

 

*مائدة عودة: لن تشفى جراحنا قبل تحقُّق العدالة

لم يكن السادس عشر من أيلول عام ١٩٨٢ يومًا عاديًّا في حياة مائدة عودة، فهو اليوم الذي كانت فيه ابنة الاثني عشر عامًا شاهدةً على واحدة من أفظع جرائم العصر وأكثرها دموية.

وفي حديثها لموقع "فلسطيننا"، تروي مائدة تفاصيل ما جرى، فتقول: "كانت الأوضاع متوترة في لبنان على أكثر من مستوى في ظلِّ الاجتياح الإسرائيلي، فلم يكد يمضي يومان على وفاة الرئيس اللبناني في ذلك الوقت بشير الجميّل، حتّى أخذت الأحداث تتابع بسرعة، لنُفاجأ بحصار قوات الاحتلال الإسرائيلي وعملائه من القوى اليمينية الانعزالية للمخيّم ثُمَّ اقتحامهم له".

وتتابع: "كنا نجلس في دكان صغير تملكه عائلتي يقع على الشارع، عندما هرولت باتجاهنا ابنة شقيقي لتخبرنا أنَّ قوات الاحتلال اقتحمت المخيّم، فدخلنا نحن وجيراننا إلى منزلنا وقررنا عدم الخروج تحت أي ظرف".

تشردُ مائدة قليلاً، قبل أن تكمل حديثها وكأنَّ ما حصل يومها ماثل أمامها، وتضيف: "لم نعرف بالتحديد ما كان يدور خارجًا ولكنّنا كنا نسمع أصوات الصراخ وهدم المنازل. وفي اليوم الثاني من المجزرة، دقت بابنا جارتنا أم أحمد سرور، فصُعقنا عندما شاهدناها والدماء تُغطيها وبقايا جزءٍ من مخ ولدها على كتفها! كانت في حالة صدمة شديدة، وأخبرتنا أنَّ الاحتلال قد دخل منزلها وقتل زوجها وعددًا من أبنائها الذين لم ينجُ منهم سوى ماهر وإسماعيل، فتركتهما لدينا، وقالت بهلعٍ شديد أهربوا إنهم يقتلون الفلسطينيين، قبل أن تخرج من المنزل مسرعة".

وتضيف: "في اليوم الثالث والأخير من المجزرة داهم مسلَّحون منطقتنا وأجبرونا نحنُ وجميع الأهالي على الخروج من المنازل. وفيما كنا نسير استوقفوا جارنا أبو محمود أبو حرب قبل خروجه من المنزل، وقالوا له أن يعطيهم كلَّ شيء معه، وأن يوقّع على إيصالات مالية، ثُمَّ قتلوه هو وابنه حسن! وبعدها أمرونا أن نمشي معهم، وحينها كانت الصاعقة التي وقعت علينا! فقد شاهدنا بأم أعيننا الجثث ملقاةً على الأرض متكدسةً أكوامًا فوق بعضها، لم يستثنوا طفلاً أو امرأة أو شيخًا. ثُمَّ أخذوا يتعمّدون أن يدوسوا بأرجلهم على جثث الرجال والنساء والأطفال ليدبَّ الرعب في نفوسنا، وبالفعل فمن شدة الخوف وهول ما رأينا سقط شعر ابنة شقيقي".

وتكمل: "عند وصولنا إلى المدينة الرياضية، طلبوا إلينا الجلوس على الأرض وعدم التحرُّك، ثُمَّ سألونا باستفزاز ماذا نحب أن نسمع من أغنيات، وأجبروا النساء المحجبات على الرقص، وأثناء قيامهم بهذا الفعل الشنيع كانوا يسألون النساء عن أزواجهن، وعندما وصلوا إلى إحدى قريباتي أجابتهم بأنه مع المقاتلين الفدائيين، ليقول لها أحدهم: (نحنا وراكن والزمن طويل). وفجأة جاء أحدهم وقال له كُلُّهم، حينها عرفنا أنَّنا جميعًا سنلاقي حتفنا لا محالة، ثُمَّ أمرنا ألّا نتحرَّك كي لا تفتح علينا الدبابة الإسرائيلية المتوقفة النار".

وتتابع: "مضت برهة من الوقت والجميع جالسون على الأرض مرهقين وخائفين، ودام الصمت المطبق فترة قبل أن تقطعه زوجة شقيقي لتقول: (سأمُر أنا وأولادي وفي حال أطلقوا علينا الرصاص، لا تأتوا وراءنا)، فبقي قسمٌ من الموجودين في مكانهم، فيما فضّلتُ أن أذهبَ مع الذين مشوا خلفها. وعندما وصلنا إلى منطقة الـ"كولا" سمعنا صوت إطلاق الرصاص، فعلمنا أنَّ أحدًا لم ينجُ من جيراننا، لذا بقينا في المنطقة يومًا واحدًا فقط، عدنا بعدها إلى منزلنا والخوف يأكلنا بعد أن وجدنا المخيّم أشبه بمدينة أشباح تملؤها رائحة الموت من كل حدبٍ وصوب، إذ إنَّ جثث الشهداء بقيت ثلاثة أيام على الأرض سابحةً في دمائها حتى أتى الصليب الأحمر وسحب الجثث".

وتختتم حديثها لموقع "فلسطيننا" بتوجيه رسالة إلى الحكّام العرب بأنّ يقفوا وقفة حقٍ مع أبناء شعبنا الذين سُلِبَت منهم أرضهم وهُجِّروا ولجؤوا إلى مخيّمات الشتات، لتلحق بهم الحرب ويرتقوا شهداء في سبيل الوطن والقضية، مُناشدةً أحرار العالم كافّةً مساندة أهالي صبرا وشاتيلا عبر الضغط باتّجاه تقديم مرتكبي المذبحة إلى العدالة لعلَّ ذلك يشفي بعضًا من جراحهم ويُعيد إليهم جزءًا من حقهم المسلوب.