شهدت الجمهورية التونسية تجربة الانتخابات الرئاسية الثانية يوم الأحد الماضي، وفي قراءة أولية لتجلّيات العملية الانتخابية، وقبل ظهور النتائج النهائية لها، يمكنني أن أسجل بعض الملاحظات المهمة، التي عكستها الإرادة الشعبية التونسية في الانتخابات، ومنها: أولاً نجحت تونس في وضع أقدامها على أرض الديمقراطية بقوة، حيث شهدت عرسًا ديمقراطيًّا نزيهًا وشفافًا، وبعيدًا عن أية تشوهات في عمليات الاقتراع، ومارس التونسيون حقهم الديمقراطي بحرية كاملة؛ ثانيًا حملت التجربة الانتخابية مفاجآت عدة خرجت عن الصور النمطية، التي سادت في أوساط النخب والشارع والمراقبين المحليين والعرب والعالميين. وتجاوزت الافتراضات والسيناريوهات التبسيطية، التي روّجها المتنفّذون في المشهد السياسي خلال الحملة الانتخابية؛ ثالثًا اتّجهت بوصلة الناخب التونسي نحو قِبلة جديدة، عنوانها توجيه صفعة لكل المرشحين من المستوى السياسي؛ رابعًا وصفعة ثانية لكل النخب الحزبية، وكأنَّ ما حملته النتائج الأولية تشير إلى رفض الشارع التونسي لحالة التشظي والتوالد غير المسبوق، ولا المألوف لنشوء وتأسيس وتشكيل الأحزاب السياسية، وهو ما أرهق الشارع التونسي، وكفّره بكل المكونات الحزبية، وباتت من وجهة نظره بمثابة طفح مرضي شوّه القيمة الحقيقية للحزبية، وأفقدها الأهمية والضرورة، التي تحتاجها الشعوب، وهو ما يمكن أن يطلق عليه مرض "حزب الشخصلونيا"؛ خامسًا عدم تمكن قوى اليسار الوطني الديمقراطي من تمثيل نبض الشارع، بل العكس صحيح، حيث تبين وفق النتائج الأولية، أنَّ تلك القوى كانت بعيدة جدًّا عن الجماهير، ولم تتمكَّن من حشد قواها في بوتقة واحدة، ما أفقدها ثقة الفقراء والمسحوقين والفئات والشرائح الاجتماعية والطبقية ذات الصلة من العمال والفلاحين والحرفيين وحتى الطلبة، ليس هذا فحسب بل إنَّ التيار الديني المحافظ وممثلي النهضة احتلوا موقعًا متقدّمًا عنهم؛ سادسًا كما أنَّ المقترعين التوانسة سجّلوا عتبًا على الاتحاد العام للشغل، ولم يقبلوا إعلانه حياديته، ولا طريقة همسه للتصويت لشخص بعينه، ما أثار سوء فهم من قبل الشارع لموقف الاتحاد وزعمائه. وهذا الافتراق النسبي بين الشارع وزعماء الاتحاد سيترك بصمته مستقبلا على العلاقة التبادلية بينهما، لا سيما أنَّ حركة النهضة سعت عن سابق تصميم وإصرار إلى تشويه مكانة الاتحاد وزعيمه الطبوبي؛ سابعًا الانخفاض الكبير في نسبة المصوتين (45,2%) حسب معطيات لجنة الانتخابات المركزية يعكس استياء وقنوط الشارع من المرشحين عموما والسياسيين والحزبيين خصوصًا، وكأنّ الجماهير التونسية شاءت إرسال رسالة للنخب السياسية والحزبية عنوانها "أعيدوا النظر بآليات عملكم، وبسياساتكم، وابتعدوا عن شخصنة الأمور والقضايا العامة"؛ ثامنًا ردت الجماهير التونسية الشجاعة الاعتبار لكل من قيس سعيد ونبيل القروي، اللذين حظيا بأعلى نسبة تصويت حتى الآن، وحتى لو لم يذهبا بالمحصلة النهائية للجولة الثانية، مع أنّ الاتجاه العام لعمليات الفرز للصناديق يشير لصعودهما وتبوئهما مركز الصدارة في المشهد الانتخابي. بالتالي جاء التصويت لصالحهما ردًّا على عملية الاعتقال للقروي، وأيضا تعزيزًا لقيس الرجل، الذي تميّز عن الآخرين برفضه الحصول على تمويل حملته الانتخابية، ولم يقم المهرجانات، ولا رفع اللافتات والشعارات البرّاقة الكبيرة، وخاض حملته بواسطة سيارته الخاصة، ولقاءاته مع بسطاء الناس والطلبة في المقاهي والجامعات.
حتى كتابة هذا المقال مساء يوم الاثنين لا يمكن الجزم أيهما الأوفر حظًّا بخوض الجولة الثانية للانتخابات، ومن الفائز بمقعد الرئاسة التونسية القادمة، وإن كانت مؤشرات الفرز تشير لشخصين بعينهما (سعيد والقروي). لكنَّ تجربة تونس الانتخابية، كانت غنية، وفيها دروس مهمة سياسية واجتماعية وقانونية وثقافية وحزبية، على النخب التونسية أن تستلهمها، وتدونها في صحيفة من ذهب لتستخلص دروسها وعبرها، وتتعلم منها، وتعيد النظر بتجربتها القائمة.
لكنَّ الدرس الأهم في التجربة، هو التأصيل للخيار الديمقراطي، والشفافية والنزاهة في العملية الانتخابية. وأتمنّى لتونس التوفيق والنجاح والمزيد من التقدم لبناء تونس الديمقراطية الحديثة.