لا شيءَ يُقلِقُ الفلسطينيَّ مثلَما يُقلِقُهُ وُجودُهُ في المَطارِ. لا نَدري مَن الذي اخترَعَ هذا المكانَ المُظْلِمَ والظّالمَ والخالي من الأصْدقاءِ.
عندما تَجتازُ الحَدَّ الفاصِلَ بينَ المُودّعينَ والمسافرينَ وترى كلَّ مَنْ هُمْ حولَكَ يُلوّحُونَ بأيديهِم ليردّوا تحيّةَ الوداعِ التي تُلقيها غابةُ الأيدي في الجانبِ الآخرِ من سِفْرِ التّرحالِ، تبدأُ أنتَ بالتّلويحِ بيدِكَ متظاهرًا أنّك أيضًا تَرُدُّ التحيّةَ كما يَفعلُ غيرُكَ، لكنّكَ في الحقيقةِ لا تُودّعُ أحدًا، ولا أحَدَ يلوّحُ بيَدِهِ لكَ، فأنتَ لمْ تَتْرُكْ خَلْفَ ظَهرِكَ سوى أرضٍ أخرى تَصرُخُ في وَجْهِكَ: أنا لَسْتُ لَك.
عندما تَدْخُلُ المَطارَ تتسارعُ دقّاتُ قلبِكَ كمَنْ يهمُّ بدخُولِ غُرفةِ التّحقيقِ. تَشعرُ وأنتَ تَجتازُ نقطةَ التّفتيشِ أنّكَ تَحمِلُ في حقيبَتِكَ كلَّ لائحةِ المَمنُوعاتِ التي تراها مُعلَّقةً أمامَكَ ولا يهتمُّ بوجودِها أحدٌ إلّا أنتَ، ورغمَ أنَّ حقيبَتَكَ تُشبهُ كلَّ الحقائبِ الأخرى فإنَّك تظنُّها مُختلفةً، وكأنّها تنادي رَجُلَ الأمْنِ وتقولُ لهُ: فَتّشْني! ثُمَّ يراوِدُكَ الشكُّ وهو يطلبُ منكَ فتْحَها بأنّ عينَيْهِ الثّاقِبتَيْنِ ستعثُرانِ بينَ أغراضِكَ الشّخصيّةِ على شيءٍ لم تضَعْهُ أنتَ، لكنّهُ موجودٌ هناكَ لا مَحالة! وتُحسُّ براحةِ غريبةٍ وأنتَ تجتازُ العقبةَ الأولى في ماراثونِ المطارِ الطويلِ عندما تكتَشِفُ أنّكَ بريءٌ منْ تُهمَةٍ وجَّهْتَها لنَفْسِكَ منْ بابِ الاحتياطِ لما هو أسوأُ، فقدْ علّمَتْكَ التجرِبةُ ووصايا والِدَيْكَ أنَّ الاحتياطَ للأسْوأِ رفيقُ دَرْبِ المُسافِرِ .
تَقفُ مُنتظرًا دَورَكَ أمامَ شُبّاكِ التّدقيقِ في وثائقِ السّفَرِ، يَمُرُّ البيضُ والسُّودُ والصُّفْرُ ومنْ لا لَونَ لهُمْ ولا جنسَ ولا دِينَ، تنظُرُ إليهِم فتغبِطُهُم لأنّهُم يَبتَسمُونَ دونَ اكتراثٍ للوَجْهِ العابسِ الرّابضِ في الجهةِ الأخرى منْ متراسِ شبّاكِ التدقيقِ بجوازاتِ السّفرِ، فتخالُ أنّ صاحبَ هذا الوَجْهِ لا يلتَفِتُ إلى أحدٍ ولا يدقّقُ بأيةِ وثيقةٍ، وتراهُ يُسارعُ بالسّماحِ لكلِّ المسافرينَ بالعُبورِ وكأنّهُ ينتظِرُكَ أنتَ! فتتساءلُ في قرارةِ نفسِكَ: هلْ وُجِدَ هذا المخلوقُ في هذا المكانِ منْ أجلِ التفرُّغِ لكَ؟ وإلا فلماذا يُدقّقُ في جوازِ سفرِكَ ويقلّبُهُ كما لو كانَ مَصنُوعًا من مادّةٍ غريبةٍ، أو كأنَّ صورتَكَ واسمَكَ لا علاقةَ لهُما بصُوَرِ وأسماءِ سُكّانِ كوكَبِنا الأزرق؟ لا فرقَ إنْ كُنتَ تَحمِلُ وثيقةَ سَفرٍ لا تؤهّلُكَ لدُخولِ الدّولةِ التي صدَرَتْ منها، أو جوازَ سفرٍ صادرٍ بناءً على اتفاقيّةٍ لم يبقَ منها سوى هذا الإصرارِ على حَشْرِ اسمِها ليَسبِقَ اسمَكَ، وقد تكونُ حاملاً لجنسيّةٍ أخرى لا يُدقّقُ أحدٌ في جوازاتِ سَفرِ حامليها الآخرين.. لا فَرْقَ! فلا علاقةَ لنَوعِ الوثيقةِ التي تَحمِلُها بشُعورِكَ أنّ كلَّ مطاراتِ العالمِ هي جزءٌ أصيلٌ منْ عدُوِّكَ المترَبّصِ بكلِّ خطوةٍ تَخْطوها، وكأنّها تريدُ أنْ تُفْهِمَكَ أنَّ جَوازَ سَفَرِكَ لا يُجيزُ سَفَرَك.
*للفلسطينيِّ حظٌّ من القَلَقِ لا ينافِسُهُ عليهِ أحدٌ، وهو قَلَقٌ ملاصِقٌ لما يَحملُهُ من "جيناتٍ" وراثيّةٍ ترافقُهُ في حلّهِ وترحالِهِ، قَلَقٌ يُردِّدُ دونَ انقطاعٍ ما قالَهُ محمود درويش: وَطني لَيْسَ حَقيبَة.. وأنا لَسْتُ مُسافِر.

١٦-٩-٢٠١٩

رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان