خاص مجلّة القدس العدد 355|
 أخطأ وزير العمل اللبنانين كميل أبو سليمان في اعتباره اليد العاملة الفلسطينية في لبنان يداً عاملة أجنبية تطبق عليها قوانين العمل الخاصة بالأجانب، ولم تسعفه الحصافة في التفريق بين العمالة الوافدة، والعمال الفلسطينيين اللاجئين الذين تسري عليهم بروتوكولات واتفاقات دولية تتمتع بالأولوية التنفيذية حتى على القوانين المحلية مثل اتفاقية اللاجئين الدولية (1951)، وقرارات جامعة الدول العربية في شأن معاملة اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة. أمَّا ذريعة منافسة العمّال غير اللبنانيين للعمال اللبنانيين فهي ذريعة واهية، وصارت مبتذلة تماماً لكثرة تفنيدها باستمرار. وكان على وزير العمل اللبناني أن يدرس جيّداً آثار قراراته، وردّات الفعل المتوقّعة عليها قبل أن يُقدم على ما أقدم عليه، وتسبب في موجة احتجاج واسعة، وغضب عارم في صفوق الفلسطينيين في المخيمات. وفي ما يلي مقاربة علمية لأحوال اليد العاملة الفلسطينية في لبنان تبرهن أنَّ العمال الفلسطينيين ليسوا منافسين للعمال اللبنانيين على الاطلاق، بل يتكاملون معهم في دورة الاقتصاد الواحد.

البدايات
كانت البنية الاقتصادية في لبنان، في مطلع الأربعينات من القرن العشرين، تقوم على الانتاج السلعي (الزراعي والصناعي والحرفي). فكانت حصة هذا القطاع تقارب 50% من مجمل الناتج الوطني الشامل. لكن، في ما بعد، راح الاقتصاد اللبناني يتحول، بالتدريج، نحو الخدمات التي ازدادت حصتها في الناتج الوطني الشامل إلى 68%. وكان للنكبة الفلسطينية دور مهم في هذا التحول ولا سيما مع ازدهار ميناء بيروت ومطارها الدولي والقطاعين المصرفي والعقاري، فضلاً عن استئثار ميناء الزهراني وميناء طرابلس بالنفط السعودي والعراقي اللذين توقف تصديرهما إلى ميناء حيفا. وكان واضحاً أن اليد العاملة الفلسطينية المدربة والماهرة مارست دوراً تنموياً في قطاع الزراعة، ثم في قطاع الصناعة، بينما كان للرساميل الفلسطينية شأن مهم في تطوير القطاع المصرفي والقطاع التجاري علاوة على قطاع العقارات. وقد استفادت القطاعات الانتاجية اللبنانية كثيراً من جهد العمال الفلسطينيين الذين كانوا يتقاضون أجوراً أقل ويعملون ساعات أكثر، فكان يوم العمل يستغرق 12 ساعة. واستمرت هذه الحال حتى سنة 1955 حينما انخفض يوم العمل للعامل الفلسطيني، نظرياً على الأقل، إلى 8 ساعات، ثم أصبح 7 ساعات ابتداء من سنة 1965 فصاعداً.
لم تكن اليدالعاملة الفلسطينية منافسة لليد العاملة اللبنانية بتاتاً. فهي، في نهاية المطاف، محدودة العدد وضئيلة  الحجم. وحتى ستينيات القرن العشرين كانت أعداد العمال الفلسطينيين في لبنان لا تزيد على الثلاثين ألف عامل فقط.واذا كانت البطالة ظاهرة في الوسط الفلسطيني في لبنان إلا ان انتقال منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها إلى لبنان منذ سنة 1969 فصاعداً ساعد في امتصاص جزء من العمالة الفلسطينية. وقد كان للأونروا، بالتأكيد دور معروف في تشغيل أعداد وافرة من الفلسطينيين في المدارس والمعاهد والمؤسسات التابعة لها. وبهذا المعنى يمكن القول إن اليد العاملة الفلسطينية لم تشكل في أي يوم من الأيام منافساً جدياً لليد العاملة اللبنانية، بل إن مساهمة الفلسطينيين في تطوير بعض القطاعات الاقتصادية اللبنانية أفسح في المجال أمام اليد العاملة اللبنانية لتستفيد من اتساع الأسواق الذي أُتيح لها جراء هذه المساهمة.

قوة العمل الفلسطينية في لبنان
في لبنان اليوم أكثر قليلاً من 500 ألف لاجئ مسجل في قيود الأونروا أو في مديرية شؤون اللاجئين أو الأمن العام. لكن المقيمين فعلياً على الأراضي اللبنانية يتراوحون بين 200 و 230 ألف فلسطيني فقط. واستناداً إلى ذلك فإن قوة العمل الفلسطينية المعروضة في سوق العمل في لبنان حالياً لا تتجاوز فعلياً الخمسين ألف عامل، فيما يتوزع مثلها على البناء والزراعة ومحطات الوقود والأفران والصيد البحري وحراسة المباني والخدمات. وتتجه عمالة النساء، على ضآلتها، إلى معامل الخياطة وبعض المعامل القريبة من المخيمات والبساتين، فضلاً عن الجمعيات الأهلية العاملة في الوسط الفلسطيني ومؤسساتها مثل رياض الأطفال وبعض المشاغل الحرفية.
إن هذه القطاعات غير منافسة لليد العاملة اللبنانية التي تفضل الالتحاق بوظائف الدولة أو وظائف القطاع الخاص. ولا بد من الاشارة إلى أن جانباً من قوة العمل الفلسطينية يندرج في إطار العمالة الموسمية ما يرفع نسب البطالة إلى معدلات عالية ربما تصل إلى نحو 40% من الطاقة الكلية لقوة العمل الفلسطينية.
لنلاحظ أن هناك نحو 350 طبيباً فلسطينياً في لبنان وقرابة 300 مهندس ونحو 40  محامياً، وأعداداً غير محددة من الصيادلة. وهؤلاء يعملون في مهن لا تتلاءم وخبراتهم. فالمهندس إن حظي بعمل لدى إحدى شركات المقاولات فهو يعمل "فورمان" على سبيل المثال. وثمة بعض الأطباء حاولوا افتتاح عيادات خاصة في داخل المخيمات، فإذا بالسلطات القضائية تصدر مذكرات جلب بحق هؤلاء بتهمة ممارسة المهنة من غير ترخيص رسمي. أما الترخيص الرسمي فهو ضربٌ من المحال، لأن المهن الحرة في لبنان تشترط على من يرغب في مزاولتها أن يكون عضواً في النقابة الخاصة بها. وتلك النقابات لا تسمح بعضوية غير اللبناني إلا بشروط خاصة وصعبة وبتكلفة ربما تصل إلى أكثر من مئة ألف دولار لمهنة الطب. لذلك يتحول الطبيب الفلسطيني، خصوصاً المتخرج حديثاً، إلى العمل في أي مهنة أخرى إن لم يهاجر أو إن لم يجد وظيفة له في إحدى عيادات الأونروا أو الهلال الأحمر الفلسطيني وهي عيادات محدودة القدرة على الاستيعاب.
إن قانون تنظيم عمل الأجانب (رقم 17561 لعام 1964) يعتبر الفلسطينيين أجانب، ويشترط مبدأ المعاملة بالمثل لمنح الفلسطينيين الحق في العمل في بعض المهن الحرة. وهذا الشرط مستحيل التنفيذ لأن الفلسطينيين لا يمتلكون دولة كي يجري عليهم مثل هذا القياس.  
لقد استفاد لبنان كثيراً من اليد العاملة الفلسطينية أَكان من اليد العاملة التي استقرت في أرجائه أو التي هاجرت منه ولا تزال تحوّل الأموال إلى أهلها في لبنان. لنلاحظ كيف أن قانون منع تملك الفلسطيني في لبنان الصادر في 21/3/2001 أثر بشكل سلبي على الحركة العقارية في بعض المناطق اللبنانية ولا سيما في مدينة صيدا وجوارها على سبيل المثال، بينما انتعشت الحركة العقارية في صيدا وساحل الشوف وبعض أحياء العاصمة بيروت والبقاع طوال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين جراء تحويلات العاملين الفلسطينيين في دول الخليج العربي.

مشكلات وحلول
إن بعض الخطوات الضرورية ستكون شديدة التأثير الايجابي في المجتمع الفلسطيني لو أقدمت عليها السلطات اللبنانية لتخفيف العبء عن الفلسطينيين مثل:
* إلغاء قانون منع تملك الفلسطينيين.
* إلغاء إجازة العمل للفلسطيني المقيم في لبنان.
* إلغاء حظر العمل في المهن التي لم يتضمنها قرار وزير العمل الصادر في 27/6/2005 الذي يبيح للفلسطيني العمل في بعض المهن البسيطة.
* استفادة العامل الفلسطيني من تقديمات الضمان الاجتماعي والضمان الصحي مادام رب العمل يدفع عنه الرسوم القانونية والاشتراكات المنصوصة في القوانين.
*    *    *
إنَّ قوة العمل الفلسطينية، بمهارات أبنائها وخبراتهم ورساميلهم، أسهمت بشدة في العمران اللبناني، وكانت طوال حقبة الازدهار عاملاً من عوامل التقدم والتطوير والبناء. ومن حقها أن تُكافأ على دورها المشهود لا أن يتم تهميشها والتضييق عليها، ولا سيما أن معظم الخبراء يكادون يجمعون على أن العمالة الفلسطينية في لبنان لا تشكّل أي منافسة للعمالة اللبنانية، بل إنها عمالة مستقرة تنفق ما تجني في البلد نفسه.