شهد مناضلو الإعلام الرسمي أمس تجسيدًا حيًّا للعلاقة الأبدية بين العقل المناضل والمناضل العقلاني، ونقصد بالعقلاني هنا الإنسان الذي يُسخِّر كلَّ قدراته العِلمية والمعرفية وخبرته لتحقيق أهداف النضال الوطني، وأهداف حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، ويُبدع عندما يقدّم رؤية ثورية (بمعنى الحلول الجذرية)، وعندما ينظم استراتيجية قابلة حتما للتحقق بأقل وأوفر الإمكانيات، وبأغنى الإرادات وأكثرها قدرة على الانغراس في واقع الأرض والمفاهيم، لتقليبها للمضي بعد ذلك في بذر أو غرس معاني التحرّر والوطنية والتقدم والارتقاء والحرية والاستقلال، فهذه الكلمات المصطلحات الثقيلة جدا تبدو لمن هو في غير موقع المسؤولية شعارات من السهل نطقها بلسانه أو تخطيطها على يافطات، لكنَّ تجسيدها حقيقة واقعة على الأرض فإنّها تحتاج إلى عقل منفتح خبير وحكمة وعمل دؤوب وصبر وثقة وإيمان بلا حدود.
لم يكن عاديًّا ما سمعناه من رئيس مجلس الوزراء الدكتور محمد اشتية بالأمس أثناء لقائنا معه أثناء زيارته لهيئة الإذاعة والتلفزيون واجتماعه بكوادر الإعلام الرسمي، وإنَّما كان خارقًا لكلِّ المفاهيم التي بُنِيَت عليها مؤسسات السلطة الوطنية، وهنا نجزم لو أنّه حظي برجال دولة مناضلين يمضون معه حتى النهاية بدون كلل أو ملل ويسيرون على هدى استراتيجية وطنية أوضح معالمها الرئيسة ومراحلها بتركيز دقيق -نعتقد أنّه سيحظى بهم وسيراهم وسيرانا معه- فإنَّ مرحلة جديدة سيشهدها شعبنا وتحديدًا هنا على أرض الصمود والمواجهة مع المشروع الاستعماري الجديد، مرحلة يمكن أن نعتبرها انطلاقة جديدة لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية المعاصرة ولكن بأدوات ووسائل البناء والصمود التي ستمكننا من رفع ركائز الدولة، ليس أي دولة، وإنّما دولة يشارك الجميع في رفع أركانها، القيادة الوطنية، الحكومة، الهيئات المؤسسات، المواطنون فرادى وجمعًا، حيث يزرع من لا أرض له بأرض من لا يمكنه زراعتها، ويأكل المواطن من خيرات بلده، وتساهم الحكومة مع العقول المنجِبة للمشاريع الصغيرة والكبيرة على حد سواء في أحياء أي بقعة من أرض الوطن، وتحديدًا تلك التي ما زال الاحتلال يضعها نصب عينيه لاغتصابها وسرقتها، الأرض الغنية أصلاً والتي لا تحتاج إلّا لإرادة مواطن يكتشف كنوز الخير والبركة فيها، وهذا لن يحصل إلّا إذا سرنا بعقلية المناضل، وبعقل المناضل المتبصّر المسلّح بالعِلم والمعرفة.
يعتقد الكثير منّا أنَّ مرحلة الدولة تعني خلع بدلة وعقل الثورة والعمل الحثيث والمنتج والاستعاضة بارتداء البدلة السموكن وعقدة العنق والتوجه نحو الركون والراحة والاستزادة الشخصية، ولا يدرون أنَّ العقلية الثورية الوطنية عند انتقالها من الثورة إلى الدولة تبقى مُتّقدة وهّاجة منيرة مبدعة، لكنَّها ملتزمة بنظام وقانون الدولة وزيها الرسمي، ففدائي الأمس هو ضابط في المؤسّسة الأمنية اليوم، والموظّف الكبير المتخصص في الحكومة اليوم كان فدائيًّا يحمل شهادة جامعية باختصاص علمي، فالطبيب الفدائي في قواعد ومستشفيات الثورة قد نراه اليوم وزيرًا أو وكيلاً أو طبيبًا متقدّمًا في وزارة الصحة وهذه أمثلة وليست حصرًا.
يهمنا في هذا المقام التأكيد على استعادة روح المناضل لدى موظف الدولة، فالمناضل الفدائي لم يحصر تفكيره وجهده في رسم خطط عسكرية لضرب الاحتلال وتنفيذها وحسب، بل كرس الكثير من تفكيره وجهوده لخلق مقومات صمود وديمومة عطاء، وحاضنة شعبية التي من دونها تصبح الثورة مجرد ظاهرة وتنتهي سريعا، ويصبح المناضلون غرباء عن مجتمعهم وبيئتهم وحتى في دوائر عملهم الميدانية التي لا تخلو من الجماهير أبداً، ولعل قصص نجاح مناضلي الثورة الفلسطينية المعاصرة تؤكد الوعي الوطني الذي مكنهم من غرس فسيل مبادئ وقيم الثورة وفكرة التحرر الوطني حتى أصبحت اليوم شجرة عظيمة لا تقوى على كسرها أو اقتلاع جذورها اعظم بلدوزرات القوى المعادية وأولها الاحتلال الإسرائيلي.
مخطئ من يعتقد أنَّنا وصلنا إلى مرحلة قطف ثمار الثورة وتوزيعها، ويخطئ أكثر مَن يعتقد أنَّ لحظة رفع عَلَم فلسطين في سماء عاصمة فلسطين القدس الحُرّة المستقلّة ستكون بداية موسم توزيع المكتسبات والتدافع من أجل الحصول على نصيب أكبر، كما حدث معنا عند بداية تشكيل أول سلطة وطنية لنا على أرضنا، ففي قواميس الشعوب والدول لا توجد (مواسم للأخذ) ولا توجد مراسم لتوزيع الحصص، وإنَّما كل المواسم للعطاء، وتبقى حصة الشهداء والأوفياء والصابرين والصامدين والعاملين الأحياء مكفولة مضمونة، والسؤال كم هي؟! وماذا تساوي؟! الجواب وطن حُرّ مستقل، وحُرّيّة وأمان واستقرار وازدهار ونمو وتقدم وديمقراطية ورفاهية، وصحة وتعليم مجاني للجميع، ورؤى خلاقة تفي كل دورة من الزمن حقها، وطن يراه أهله جنة ليس كمثلها جنّة.