لم تكتفِ إسرائيل بِالسيطرةِ على فلسطين بشكل كامل، بل أمعَنَت في همجيّتِها وعدوانِها على أبناء شعبنا، ومارستَ احتلالاً من نوعٍ آخر، هوَ احتلالُ ومصادرة الموارد الطبيعية الأساسيةِ في فلسطين، التي لا يُصلح العيش من دونِها، وفي مُقدمَتِها: شريانُ الحياةِ.. المياه، المياه التي تعتبر أهم عنصر من عناصر حياة الإنسان.
ولأهمية المياه ورد ذكرها في القرآن الكريم في عدد كبير من الآيات ومنها: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) ﴿٢٢ البقرة﴾، (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ﴿١٦٤ البقرة﴾، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴿١١ الأنفال﴾، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴿٣٢ إبراهيم﴾، وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴿٦٥ النحل﴾.
ولكن، منذ العام 1967 سيطرت حكومة الاحتلال على جميع مصادر المياه، من سطحية وجوفية، فأصدرت سلسلةُ من الأوامر العسكرية التي جعلت المياه بموجبها أملاك دولة، ولا يحق استخدامها إلا بتصاريح خاصة يمنحها الحاكم العسكري، وقيّدت عمل مصلحة مياه القدس ودائرة مياه الضفة الغربية القائمتين، وأنشأت سلطة مياه ومجاري بيت لحم بأمر عسكري آخر في العام 1972.

أرقام وإحصائيّات
حياةٌ قاسية يعيشها أبناء شعبِنا في الداخل المُحتل جرّاءَ نهبِ الاحتلال بشكلٍ مباشر نحو 85% من مصادر المياه، وبهذا لا يحصلُ الفلسطينيون سوى على 15% من نسبةِ المياه المتجدِّدة، بالإضافةِ إلى منعهم من الاستفادةِ من مياهِ البحرِ الميت، ونهر الأردن، والحوضَين الغربيّ والشماليّ الشرقي، فالافتقار إلى الكميات الكافية من المياه للمواطنين الفلسطينيين هي مشكلة دائمة، نشأت بسبب السياسات والممارسات الإسرائيلية القائمة على التمييز والحرمان واستغلال الموارد المائية الفلسطينية، وهذا الأمر ينعكس في التفاوت البارز في الحصول على المياه بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فيبلغ استهلاك الفرد الفلسطيني للمياه في أراضي دولة فلسطين نحو 72 لترًا للفرد في اليوم، (يقلُّ كثيرًا عن المستوى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية وهو 100 لتر للفرد يوميًّا)، فيما بلغ مقدار استهلاك الفرد الإسرائيلي للمياه نحو 300 لتر يوميًّا؛ أي أنّه يزيد بنحو أربعة أضعاف؛ بل إنَّ الفلسطينيين يعيشون في بعض التجمعات القروية على أقل كثيرًا من 72 لترًا للفرد في اليوم، ولا يكاد يزيد في بعض الحالات عن 20 لترًا يوميًّا، وهو الحد الأدنى للمقدار الذي توصي به منظمة الصحة العالمية للاستجابة لحالات الطوارئ.

في غزةّ.. حصارٌ حتّى في المياه
في قطاعِ غزّة المحاصر يوصف الوضع بالكارثي، إذ تُقدَّر نسبةُ مياهِ الشربِ غير الصالحة للاستخدام الإنساني بنحوِ 97%، وهو ما يعود لتسرُّب مياه البحر إلى الخزّان الجوفيّ نتيجة الضخّ الجائر، ويسبّب هذا الوضع مخاطر صحية وبيئة جسيمة.
تنقطِعُ المياهُ أيامًا وبعض الأحيان شهورًا، ممَّا يضطَّرُ بعضَ العائلاتِ لحفرِ الآبار لتجميعِ المياه، لكنَّها تظلُّ جافةً، الأمرُ الذي يُحتِّمُ عليهِم شراءَ المياه من شاحناتٍ لتعبئةِ البئر.
وفي شهر تموز الماضي وقَّع رئيس سلطة المياه مازن غنيم، مع مديرة مكتب وكالة التنمية البريطانية في فلسطين كولين وينرايت، مذكرة تفاهم لدعم إنشاء محطة تحلية المياه المركزية في قطاع غزة بقيمة 9 ملايين جنيه استرليني، وعقب هذا التوقيع وصف رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور محمد اشتية الوضع المائي في قطاع غزة بشديد الخطورة، ولفت إلى أنَّ مشروع محطة تحلية المياه في غزة مهم جدًّا، وهو من ضمن اهتمامات سيادة الرئيس محمود عبّاس.
ومن جهته، أعلن رئيس سلطة المياه مازن غنيم عن الانتهاء من إنشاء مشروع محطة تحلية مياه البحر في مدينة غزة، بعد جهد دام ثلاث سنوات تجاوزت سلطة المياه فيها التحديات كافةً، وعلى رأسها تعطيل الجانب الإسرائيلي إدخال المواد، خاصة المعدات الكهروميكانيكية منها، وأشار إلى أنَّ القدرة التشغيلية للمحطة 10 آلاف م3 يوميًّا.
وقال غنيم: "بدأنا التشغيل التجريبي، والذي سيخدم أكثر من 200 ألف مواطن يقطنون في محافظتي غزة وشمال غزة، كما سيتم خلط المياه من هذه المحطة مع مياه الخزان الجوفي في خزانات الخلط التي أُنجِزَت من قِبَل سلطة المياه، والعمل جارٍ على ربط المحطة بشبكة الكهرباء لضمان استمرارية وثبات العمل لننتقل إلى التشغيل الدائم المتوقع أن يكون في أقل من 3 شهور".
يُذكَر أنَّ محطة تحلية غزة هي المحطة الثانية التي يتمّ إنجازها خلال عام 2019 بعد محطة دير البلح، وهذا تطبيق لخطة سلطة المياه الاستراتيجية فيما يتعلَّق بتزويد سكان قطاع غزة بمياه الشرب الآمة، وتطوير خدمات المياه وإيقاف التدهور في خزان المياه الجوفي.

السيطرة على مياه الأمطار
لا تكتفي إسرائيلُ بسرقة المياه الجوفية، بل إنَّ يدها تمتد إلى مياهِ الأمطارِ لتُحوّلها إلى مستوطناتِها، حارمةً أبناء شعبنا من الحصول على الحدِّ الأدنى من حقِّهم الطبيعيّ منها، والذي تكفَلُهُ لهم القوانين والاتفاقيّات الدوليّة ومنظّمات حقوق الإنسان، والبندُ الأربعون من اتفاقية "أوسلو" المتعلِّق بتقسيمِ المياه من المصادر المشتركة وإيقافها عن اللجنة المشتركة أو تعديلِها إلى حين إجراء مفاوضاتٍ نهائيّة.
فقد كان عام 2018-2019 عامًا جيّدًا من حيثُ الكميات وتوزيعها حتى نهاية شهر شباط الماضي، وذلك بالاستناد على البيانات التي جمعتها دائرة الأرصاد من خلال 103 محطات لرصد كميات الأمطار، منتشرة في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن رغم هذه البينات، قد تبلغ الاستفادة الفلسطينية من مياه الأمطار محدودة جدًّا، تصل إلى 1% فقط من كميات الأمطار التي يمكن حصادها، بسبب سيطرة قوات الاحتلال عليها.

التدخُّل الدولي حاجة ملحّة
أمام هذه الإجراءات والسلب والنهب العلني، فإنَّ الوضع يستدعي تدخُّلاً دوليًّا لوقف نهب الاحتلال الإسرائيلي للثروة المائية، واستخدام عطش الأهالي والأرض سلاحًا ضدَّ أصحاب الأرض والمياهِ الحقيقيين، وإلّا فإنَّ العطش سيبقى عنوانًا لحياة الفلسطينيين.

تقرير: فاطمة المجذوب