المرأة كائنٌ غامضٌ مليءٌ بالأسرار والطلاسم، عالَمٌ قائم بذاته، وربما لا صلّة له بعالم الرجل، من حيث الانتماء الإنساني. هكذا أفهم موضوع المرأة كما هو سائد في مجتمعاتنا. فقد خلتُ أنَّ الموضوع، قد حُسِمَ منذ أواخر القرن التاسع عشر، واعتُرِفَ بالمرأة إنسانةً مكتملةً لشروط الانتماء الإنساني. لكنّ الردّةَ السَّلفية، التي ضربت مجتمعاتنا العربية، والهجمةَ على دور الإنسان الفلسطيني الحضاري، دفعتني لإبراز دور المرأة الفلسطينية، وما حققتهُ منذ القرن التاسع عشر، في المجالات التعليمية والاجتماعية والنضالية كافّةً، مُسجّلَةً رقمًا قياسيًّا في التطور والوعي، من خلال نماذج للمرأة الفلسطينية.
المقدسية نمرة طنوس السعيد. انضمت إلى صفوف الثورة، تحت لواء الشهيد عبد القادر الحسيني، شغلت وظيفة ضابطة ارتباط بين القوات العربية والوسيط الدولي الكونت برنادوت، ثُمّ مع مراقبي الأمم المتحدة، بعد اغتياله. كانت تتجوّل بلباسها العسكري، الذي يحمل وسامَ "العمليات الحربية"، وهو لا يُمنَح إلّا للذين اشتركوا في عمليات حربية.
بعد نكبة العام 1948، تابعت دراستها في لندن والسويد. وكانت الوحيدة التي اشتركت في مؤتمر التخطيط الاجتماعي للدول العربية، الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة. وبعد نضوج تجربتها العِلمية والنضالية، بدأت الكتابة في الصحف، ونظم الشعر باللغة الإنجليزية. عملت في إذاعة الشرق الأدنى.. تاريخنا سجل أسماء الرجال من رفاق عبد القادر الحسيني، وتجاهل أسماء النساء !!
سائدة حسام الدين، جار الله. أول فتاة فلسطينية مسلمة، تُسافر إلى إنجلترا، لمتابعة دراستها. عملت مدرّسة في كلية دار المعلمات في القدس. وفي عام 1944، شكّلت مجموعة من الفتيات المقدسيات، وانتشرن في القرى الصغيرة، يؤسّسن المدارس للإناث. ومن بين تلك القرى، قريتا أبو غوش ولفتا. وأعادت إحياء، جمعية الفتيات العربيات، مع زميلات لها، وقمن بتأسيس جمعيات لتعليم الفتيات الخياطة والتطريز، ومدرسة لمحو الأمية. وفي عام 1946، عملت في الإذاعة الفلسطينية في القدس، كمسؤولة عن برنامج المرأة.
اليافاوية ألكسندرا ظريفة. عملت لمدة ثلاث سنوات، في جمعية الشابات المسيحيات في الإسكندرية عام 1915، اللواتي قمنَ بمساعدة جرحى جيوش الحلفاء إبان الحرب الكبرى. وفي عام 1925، أسَّست جمعيةَ رعايةِ الطفلِ في يافا. وفي عام 1936 أسَّست مع زميلاتٍ لها جمعية السيدات العربيات بيافا، ثُمَّ جمعية السيدات الأرثوذكسية.
كاترين سكسك، مقدسية عملت متطوِّعةً مع بعثة الصليب الأحمر سنة 1918. قامت بتأسيس جمعية إغاثة البائس المريض. ذات مرة دعتها امرأة على وشك الموت وقالت لها: "سيدتي.. أتركُ لديك ولديّ المشلولَين فهل تعتنين بهما؟"، أجابتها كاترين،: "بل الله هو الذي يعتني بنا جميعًا.."، وكان هذا دافعها لتأسيس دار رعاية بدأ متواضعًا، ثُم اتّسع ليصبح مستشفى في بيت لحم.
ساذج نصار، زوجة الصحفي نجيب نصار، مؤسّس جريدة "الكرمل" عام 1909. وفي عام 1923 بدأت ساذج تنشر فيها المقالات التاريخية والاجتماعية، ثُمَّ تدرّجت لتكتب المقالات الرئيسة فيها. وفي عام 1941، استلمت رئاسة تحرير الجريدة. ومنذ العام 1923 نشرت المقالات الأدبية في مجلة "الهلال".
في نابلس قامت مريم هاشم مع مجموعة من صديقاتها، عندليب العمد، لائقة المصري، صبحية النابلسي، وفهمية كمال، بتأسيس جمعية نسائية عام 1921. وأنشأن أندية ثقافية ورياضية، ومعهدًا لتعليم الفتيات الطباعة. وفي عام 1947، وصدور قرار التقسيم، نظَّمت الجمعية دورات تمريض وإسعافات أولية للفتيات.
من كفر ياسيف الجليلية، سافرت سلوى الخوري إلى بيروت ودرست الطب في الجامعة الأميركية. تخرَّجت عام 1937، وكانت أول فتاة عربية نالت شهادة الطب بامتياز.
الطبيبة شارلوت نقولا سابا، وابنة يافا، التي تخرجت من جامعات إنجلترا. وفي عام 1947، افتتحت عيادتها في يافا.
ومن الناصرة برزت البروفيسورة كلثوم نصر عودة، تلك " السندبادة" الفلسطينية. وهي أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفيسورة في روسيا. ولدت عام 1892. وفي العام 1908، أصبحت مدرّسة في الناصرة. تزوجت طبيبًا روسيًّا، وفي عام 1914، سافرت معه إلى روسيا. عملت ممرضة في الجيش في صربيا، ثم في الجبل الأسود. في عام 1916 عادت إلى روسيا لتعمل ممرّضةً في الجبهة الروسية لمدة سنة، ثم عادت إلى أوكرانيا لمكافحة وباء التيفوس. بقيت في ليننغراد حتى عام 1941، ثُمّ عادت إلى روسيا للتدريس في الجامعة، وقامت مع طلابها بترجمة الآداب العربية إلى اللغة الروسية، كان لديها وعي كوني وإنساني مبكر.
حين تستعرض هذه الأسماء، والقائمة تطول، وتنظر إلى حال المرأة اليوم، والفتاوى الدينية وفتاوى أولي الأمر، التي تستهدفها بإنسانيتها وكينونتها.. لا تملكَ إلّا أن تذرف الدمع!