لم أكن أرغب إطلاقًا في الانزلاق إلى هذه المباءة حيث يتشاتم فيها الناس ويُعيَّرون بما ليس فيهم، وحيث تطفو الغرائز على السطح كالنفايات، والمسألة كلها تبدو كاستعراض العورة، وهو فعل ضار ومشين، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
ولكن ما دفعني إلى الكتابة هو أن هذه الموجة الواسعة من شتم الفلسطينيين، لا يمكن إلا أن يكون وراءها أطراف ترغب في شيطنة الفلسطيني وتهميش صورته وتخوينه وتحقيره، في مقدمة لتجاوزه سياسيًا أو إنهائه عسكريًا أو إخفائه جسديًا، هذا أولًا، أما ثانيًا فإن ذلك يبدو وكأنه دفع عربون مقدمًا لعملية تطبيع مضحكة ومربكة وبائسة وتدعو إلى الشفقة أو الرثاء أو كليهما.
ولأني لست ممن يرغبون بالبذيء من القول أو إظهاره أو التعامل به، ولأنني عروبي الثقافة، فلا يمكنني أن أشتم العرب أو ثقافتهم، فأنا أنتمي للثقافة العربية والإسلامية، باعتبارها الحاضنة والمرجعية والإطار والهوية، ولهذا لا
ما أُريد أن أقوله هنا، إنما أُوجهه إلى أولئك الذين يطلقون تصريحات أو فيديوهات أو مواقف يشتمون فيها الفلسطينيين أو يعيبون عليهم أمورًا أو ينتقصون منهم بشكل أو بآخر، وأقول أننا – أهل فلسطين الذين يعيشون فيها ونتشرف أن نجاور المسجد الأقصى – وباعتبار أنَّنا "روم" و"سلاجقة" ونستحق "الحرق في أفران هتلر" وأنَّ الوحيد الذي يفهمنا ويتعامل معنا هو "الجيش الإسرائيلي"، من هذا المنطلق أُحب أن أوجه هذه النصائح لكل هؤلاء وأشباههم ومن يريد أن ينتحر ويسير على خطاهم:
أولًا: أرجو أن لا يتصرف أحد هؤلاء أمام وسائل الإعلام الإسرائيلية كالأبله السعيد، الأبله الذي لا يدري، ولأنه لا يدري فهو سعيد، والحقيقة أنه لا يبرر سعادته ولا يشرحها أيضًا، فهو سعيد بالحمّص والفلافل الإسرائيلي، وهي سعيدة بالعلاقات مع إسرائيل، وتلك تريد زيارة إسرائيل ولكنها لا تريد أن ترى الفلسطينيين، بلاهة جميلة ومكتفية وسعيدة.
ثانيًا: أرجو أن لا تظهروا بهذه الكمية من الغباء والجهل والحمق، فما تقولونه لا يدل على علم بالتاريخ أو الجغرافيا أو السياسة أو الدين أيضًا، تبدون يا أصدقائي بكامل الغباء والجهل، وهذا يثير الضحك والاستغراب، فأنتم كما تقدمون أنفسكم كتّابًا وصحفيين وناشطين، لا يليق بكن كل هذا الغباء المطبق والجهل العميم.
ثالثًا: ليس من الضروري أن تعربوا عن كرهكم للفلسطيني إذا أردتم أن تُعبِّروا عن حبكم لإسرائيل، فالمسافة بيننا وبينكم أقرب من المسافة بينكم وبين إسرائيل، والأهم أنكم لا تعرفون الإسرائيلي، أعزّكم الله، نحن فقط، بسبب أننا "شحادين" وأننا "نشبه اليهود"، فنحن نعرفهم جيدًا، لا تجعل كره الفلسطيني ثمنًا لحب الإسرائيلي والتقرب منه.
رابعًا: الذين عبَّروا عن حبهم لإسرائيل والإسرائيليين، بالإضافة إلى البلاهة السعيدة والحمق المثير للضحك، هم أيضًا يبدون وكأنهم يُعبّرون عن مواقف لا يعرفون معناها على الإطلاق، فإذا كنتم تحبّون الإسرائيليين –ونحن لسنا ضد ذلك على الإطلاق– فأي الإسرائيليين تحبون؟ العلمانيين أم المتدينين؟ الشرقيين أم الغربيين؟ اليساريين أم اليمينيين؟ الإسرائيليين العرب أم الإسرائيليين اليهود؟ المستوطنين أم غير المستوطنين؟
فإسرائيل يا إخوتنا ليست متجانسة ولا منسجمة.
فهل تحبّون مثلًا اليهود الأثيوبيين أم اليهود البولنديين؟
خامسًا: ما تقولونه أو تكتبونه يبدو "كالكفر" كما قال أحد أصدقائي واصفًا ما تقولونه بهذه الابتسامة البلهاء أو بذلك الوقار الكاذب المدّعي، أنا شخصيًّا وعندما أسمع أحدكم أشعر بأن ظهري انكسر، ذلك أن ما تقولونه إنما هو مجاني بدون ثمن، ويُشكّل إهانة كبيرة للوجدان والثقافة، أنتم لا تدركون ما تقولون، وأرجو من الله تعالى أن يكون ما تقولونه يصدر عن انحراف في عقلياتكم أو وجدانكم فقط، أرجو أن الأمر لا يتعدى شهوات ورغبات مريضة في نفوسكم فقط.
سادسًا: إنَّ شيطنة الفلسطيني وتجريمه وإدانته وتحقيره ومحاولة لومه باعتباره الضحية المستمرة، إنما ينم عن جبن كبير، فبدلًا من إدانة الجلّاد ومحاسبته والوقوف في وجهه، فإنما يتم لوم الضحية وتقريعها، كمن يقتل المغتصبة ثم لا يجسر على النظر إلى مغتصبها، إن ما تقومون به لهو عملية تحويل وتحوّل في الوعي والسلوك، أنتم تريدون تحقير الضحية ونفيها وعدم رؤيتها لأنكم لا تستطيعون أن تقدّموا لها أي شيء.
ومن هنا الخطر الشديد، فهل هذه الحملة الواسعة هي مقدمة لتمرير صفقات مشبوهة أو إجراءات مشبوهة؟
لأنه لا يُعقل أن يتعرض الفلسطينيون لكل هذا الظلم والحصار والتحقير دون أن تخفي الأكمة ما وراءها.
إنَّ تحميل الفلسطيني مشاكل البلد التي نزح إليها إنّما هي هروب المجتمع والنظام من تحمل مسئولياته، وإنَّ لوم الفلسطينيين أو التضييق عليهم أو محاولة تهجيرهم أو إشعال الفتنة بينهم لا يمكن أن يكون بعيدًا عن حصار الأونروا والتشويش عليها وتجفيف مصادر دعمها، ولا يمكن أن يكون بعيدًا عن الحلول الرديئة والأفكار السقيمة المطروحة حاليًا.
أخيرًا: إخوتنا وأشقاءنا العرب، إنَّ الفلسطينيين ليسوا أعداءكم وليسوا ضدكم، الفلسطينيون بلا دولة وبلا سيادة، مشرّدون في بلادكم وصحاريكم، وبدلًا من مساعدتهم في إعادتهم إلى وطنهم وإقامة دولتهم باعتبارها مصلحة لكم أيضًا، فإنَّ بعضكم يريد أو يساعد في أن يجعل من هذا الحلم صعبًا أو مستحيلًا، والسبب أن الضعف والخور والجبن بلغ بهذا البعض أن يعتقد أن المستعمر قد يطيل عمره، وهذه هي نصيحتي الأخيرة إلى أولئك الذين نراهم ونقرأ لهم ما يشبه "الكفر"، المستعمر ليس متصالحًا مع نفسه، ولهذا لن يتصالح معك .. لا اليوم ولا غدًا، صدّقني، فأنا من "الروم والسلاجقة"، وكذلك من "قوم الشحادين".