اخترع الأوربيون المتعصّبون فكرة الساميّة لا لهدف سامٍ أبدًا وليس حُبًّا بل كراهةً وبغضًا، فهم اخترعوا الفكرة ليُسقطوا وليُبعِدوا اليهود المواطنين -مواطنيهم الأوربيين- عنهم كليًّا، بعقلية الفصل والإيذاء والرفض الدينية والتاريخية الكامنة في نفوسهم لهم.
تمَّ الاختراع "للسامية" بعقلية الطرد والرفض الذي مورس ضدَّ مواطنيهم من الديانة اليهودية لقرون طويلة، فابتدعوا لهم "قومية" منفصلة عنهم، ردّوها إلى الخلف البعيد حتى يقطعوا أيّ محاولة للوصل بينهم وبينهم.
ظهر هذا المصطلح (معاداة السامية) في ألمانيا نهاية القرن التاسع عشر لتمييز العرق الآري الألماني عن العرق "السامي" اليهودي حسب زعمهم . وكان الصحفي (وليم مار) هو أول مَن استخدم هذا المصطلح عام 1879م لتمييز الحركة التي تضاد اليهود آنذاك ، تلك الحركة التي وجدت تأييدا من المستشار الألماني بسمارك آنذاك ويضيف وليد ملحم من مركز بيت المقدس للدراسات قائلا: جمعت جمعية معاداة السامية 255 ألف توقيع للمطالبة بطرد اليهود، كما حصل حزب "معاداة السامية" 15 مقعد عام 1893م. وانتقلت حركة معاداة السامية من ألمانيا إلى بقية دول أوربا حيثُ تجدَّدت في روسيا عام 1881م وتم تكوين حركة لمعاداة السامية في النمسا عام 1895 كما نشأت كذلك حركات معادية للسامية في إنكلترا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية كل تلك الحركات كونت لمحاربة اليهود تحت شعار (معاداة السامية).
ثُمَّ وصلوا وربطوا هذه القومية المختَرَعة أي "السامية" نسبة للشخصية الأسطورية "سام" غير المثبتة تاريخيا، لتعطي معنى اليهودية التي يرفضونها -اليهودية هي الديانة المعروفة لعديد القوميات في العالم- أي ليعطوا مواطنيهم المنبوذين منهم، وهم مواطنيهم الأوربيين المعتنقين الديانة اليهودية ليعطوهم صفة أوتعريف قومية مغايرة تمامًا عن تلك القوميات الأوربية الناشئة في القرن ١٨.
إذن أنتم ساميّون أو يهود، ونكرهكم فلستم أصلاً منّا لا دينا ولا "قومية"، ولستم أوربيين فتصبح الكلمتان (ساميّة ويهودية) في النفخ الأسطوري الغربي ومن لحقهم من أذناب الأمة الجهلة تصبحان سيّان وتعبّران عن "قومية" ما، لم يكن لها في التاريخ من أساس قط. وهنا يأتي لاحقًا دور الحركة الصهيونية لاستغلال المصطلح كسيف مسلط على الرقاب فيردون الكرة على منشئي المصطلح ويحاربونهم والعالم به.
تصبح السامية أو/و اليهودية "قومية" أخرى! لا علاقة لها بنا نحن الأوربيين ولا علاقة لنا بهم، كأوربيين مسيحيين متعصبين، فهي أي اليهودية أو الساميّة -اللتان أصبحتا ذات مدلول واحد- ليست من قوميات الرجل الأبيض العنصري الاستعماري المغرور بذاته وسيطرته على العالم.
بعبارة أخرى يأتي نداء نابليون الفرنسي الغازي المستعمِر عام 1799 للتخلص من يهود أوربا بإغرائهم في فلسطين، وتأتي مطالبة وزير الخارجية البريطاني "بالمرستن" في القرن19مطالبا العثمانيين فتح فلسطين لليهود! ومطالبة الإنجليز عامّةً، وتأتي مطالبات اللورد شافستبري الخائبة قبل 57 عامًا من إعلان بلفور أي في 1839م بما أطلق عليه مخادعا ذاته والعالم "بشعب بلا وطن لوطن بلا شعب".
وليأتي ما يُسمَّى صندوق استكشاف فلسطين لمحاولة إثبات مقولات التوراة الخُرافية على فلسطين كمهمّة قومية إنجليزية من قبل المستشرقين عام 1865، وليأتي أيضًا الرئيس المسيحي الصهيوني (الإنجيلي) الرئيس الأمريكي جون آدامز بمثل تلك المطالبات ولكن في سياق ديني خرافي يجعل من المسيحي المتصهين (المسيحي الإنجيلي-الصهيوني) هو "الإنسان الذي يساعد الله لتحقيق نبوءته من خلال دعم اليهود"!.
أي يقول الغربيون العنصريون الاستعماريون بوضوح: يا يهود أوربا أو مواطنيها من اليهود بوضوح: أنتم لستم إخواننا ولستم منّا، أنتم عابرون طارئون على أوربا! فلستم مواطنين ولستم من أي قومية أوربية في سياق، وفي سياق آخر ضمن فكر العقيدة البروتستانتية الغربية المتأثرة باليهودية والتي شكلت تحالفا مقدسا بينها وبينهم حتى الرئيس دونالد ترامب، ليمهدوا باحتلال اليهود لفلسطين لعودة المسيح الثانية وتأسيسه مملكة الألف عام!
قام الأوربيون الموبوءون بوهم التفوُّق العِرقي، وبالعنصرية البيضاء البغيضة ضد أبناء جلدتهم من الديانة اليهودية، والتي سبقتها العداوة الدينية المستمرة التي أثمرت المجازر ضد يهودهم، قاموا من أجل أنفسهم ولطردهم وإبعادهم عن أنفاسهم بمطابقة أرض ما -وكان التركيز على فلسطين العربية- مطابقتها على خرافات التوراة والإيحاء لهم بخرافات الاستشراق والتفاسير اللاعِلمية للتوراة أنهم أي اليهود الأوربيين وفي روسيا ليسوا أوربيين ولا روس ولا غربيين! وإنَّما أنتم من نسل أولئك القدماء قوميا الوارد ذكرهم بالتوراة!
وأنتم من طينة يهود التوراة ذاتها، لم يتغير الزمن بكم ، بل تغير بالعالم كلّه إلّا بكم! والزمن لكم فقط يعيد نفسه في مسرحية عودة المسيح اليهودي التوراتية الخرافية، وأنتم حاملي تراث "الأجداد" دينيًّا!
ضرب السيد الغربي العنصري الاستعماري عصفورين بحجر إذ عبّر عن رفضه لوجود يهودهم بين ظهرانيهم -وهم أي يهودهم من القوميات الأوربية- بطريقة حضارية بأن طردوهم من عقولهم وتاريخهم وصدورهم، ثم من أدبيّاتهم وثقافتهم واقتصادهم، ثم من مواطنهم وبيوتهم وبلادهم في روسيا وأوربا تحديدًا.
ثانيًا: حققوا هدفًا استعماريًّا عظيمًا لطالما حلم الغرب الاستعماري العنصري به في إطار فكر حروب الفرنجة (التي سماها الغرب المتعصب الحروب الصليبية) ومنهج الاستعلاء، والاستعباد والاستعمار بوضع الإسفين في قلب الأمة العربية والإسلامية كعامل تفتيت وفتنة وتدمير للثقافة العربية الإسلامية-المسيحية الشرقية الجامعة، واستغلال للبشر والثروات إلى ما شاء الله.
الاختراعات الغربية المتراكمة ما بين اختراع "اليهودية" كقومية، واختراع "السامية" (والتي تلقفتها الحركة الصهيونية لاحقا) أعادت تفكيك وتركيب الجغرافيا والتاريخ لتصور أن مسرح التوراة منذ آلاف السنين هو كما هو، وهم رغم مواطنيتهم الأوربية لآلاف السنين ليسوا أوربيين؟! بل هم المعنيون بإعادة موضعة التاريخ البائد من جديد!
وكأنّ القدماء البائدين هم ذاتهم الجُدُد! ما ثبت بطلانه، إذ أن قبيلة بني "اسرءيل" القديمة المنقرضة لا صلة قومية لها بتاتا بمحتلي أرضنا فلسطين اليوم ممن يتسمّون بالاسم المشابه أي "إسرائيل" وهذا السياق ليس رغبة وطنية عارمة بل حقيقة علمية/وراثية جينية، وتاريخية وقانونية ثابتة.
عانى المواطنون الأوربيون اليهود في أوربا وفي روسيا من الظلم ومن الاستبداد ومن التشكيك ومن الاتهام من إخوانهم بالقومية المسيحيين دهرًا طويلا، ووجدت الغالبية في النصوص الدينية ما يجعلها تشن حملاتها الصليبية ضد المسلمين، وضد مواطنيهم من اليهود فكانت المذابح وكان الظلم وكان التسلُّط في حين نعِم أصحاب الديانة اليهودية من العرب والترك والكرد والفرس والأمازيغ في إطار الحضارة الإسلامية في منطقتنا في غالب الأوقات بمواطنيتهم على حد الفهم القديم للمواطنية في الإمبراطوريات.
استمرت معاناة المواطنين اليهود الأوربيين والروس من مواطنيهم بالديانة الأخرى حتى كتب ماركس، وأشار لينين لما سُمّي "المسألة اليهودية" التي كان يقابل بها الغربيون مواطنيهم اليهود بذات عنصرية التوراة وعنصرية وخرافة "شعب الله المختار"، فكانت المذابح ضد المواطنين اليهود الروس في العام 1881 وما تلاها من تهجير ثم إقفال أوربا وأمريكا باب الهجرة في وجوههم من العام 1905 إلى أن عاقبوهم من خلال العنصرية النازية في صراع لم ينتهي بالأوربيين الاستعماريين الأوربيين إلّا بإلقائهم بعيدًا في بلادنا، وبالمقابل أحسنت الحركة الصهيونية و"اسرائيل" في استخدام أسلحة الحقد والكراهية الأوربية لتعيدها سكينا على رقبة الغرب.
اليوم وفي ظل تفاقم المنهج العنصري التوراتي ضد العرب عامة وضد المسلمين وضد المسيحيين، لدى حكومة "نتنياهو" المتحالفة مع الصهيونية المسيحية بزعامة الرئيس الأمريكي الشعبوي "ترامب"، تصبح "القومية اليهودية" حقيقة كما يريدونها بظنهم! فيُسَن بها قانون، وكأن القوانين العنصرية تلغي الحقائق؟ وتصبح فلسطين العربية الإسلامية الحضارية أرض هؤلاء الأوربيين والأسيويين العابرين، والطامة الكبرى أن تجد في أمة العرب والمسلمين من ينظر لخذلانه وخنوعه وجهله وقلة حيلته فيقبّل منهم الأيدي والأقدام!

الحواشي:
[1] لم يثبت تاريخيًّا وجود سام أصلاً، وما هو إلّا اسم توراتي فقط.
[2]  الطبري وابن كثير ينسب العرب إلى سام فيقول: عن سعيد بن المسيب أنه قال: "ولد نوح ثلاثة سام ويافث وحام، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة فولد سام العرب، وفارس والروم، وعليه إن صح الوجود لسام هذا وصح النسب فإنّ سام لا يمثّل إلّا العرب ومن ضمنهم العرب ذوي الديانة اليهودية".
[3] بل وفي ظل توهان المصطلحات وخلطها ببعضها البعض يستخدم بعض الجهلة مصطلح "الشعب" "العبري" والحقيقة أن بني إسرءيل القدماء المنقرضين قبيلة واليهودية ديانة وعابر في أحد الروايات جد لقبائل متعددة فلا صلة بين الثلاثة بحيث أنها هي ذاتها.
[4]  ثبت كذب المقولة في حينها عندما ذهب بعض الحاخامات إلى فلسطين فوجدوها عامرة بسكانها من العرب الفلسطينيين، فقالوا إنَّ العروس جميلة ولكنَّها مخطوبة، وتسب المقولة المفتراة لاحقًا للصهيوني "إسرائيل زانغويل".
[5]  المغالطة التاريخية القول بقرابة يهود أوربا والعالم الجديد بالعرب لا سيما بعد أن اختفى يهود التوراة نهائيا . وانه لا قرابة بين العرب الساميين واليهود الخزر المنغول الآسيويين الباقيين ولا توجد أية صلة قرابة بين العرب واليهود الذين هم أوربيون سلاف (خزر) أو آريون أكثر منهم ساميون وهذا يصدق على كل الطوائف اليهودية وعلى امتداداهم ...إن اليهود الذين يكونون شعوب "إسرائيل" حاليا والذين جاءوا من أكثر من اثنتين وسبعين دولة لا يؤلفون جنسا واحدا، إنما مجموعة أجناس وأخلاط وانه من الخطأ القول بوجود جنس يهودي وإلا كيف يجمع بين يهود الفلاشا ويهود التأميل في الهند ويهود الصين والتركستان وكردستان واليمن وبولندا أو غيرها من يهود العالم(د.عبدالفتاح الغنيمي، شعوب إسرائيل وخرافة الانتساب للسامية، العربي للنشر، القاهرة ط1 عام2002 ص8).
[6] مقترح د.زياد منى للتمييز بين القدماء المنقرضين برسم (إسرءيل)، والجدد من قوميات عدة اليوم (إسرائيل).
[7]  تلقّت المدرسة التوراتية في علم الآثار ضربةً قاصمة في 4 "يوليو/ تموز" الحالي 2019، قد تكون المسمار الأخير في نعشها، بعد إعلان نتائج تحليلات رفات مقبرة الفلسطينيين القدماء في مدينة عسقلان العائدة لمطلع العصر الحديدي (من 1200 قبل الميلاد إلى 800 قبل الميلاد)، فهذه المدرسة مارست، قرنا ونصف القرن، مختلف صنوف القولبة، والتزييف، والعبث بالأدلة، و"الإرهاب الأكاديمي"، بغرض واحد وحيد، إثبات تاريخية الرواية "التوراتية" لأحداث الشرق القديم. ولكن نتائج التحليلات التي نشرتها المجلة التي تصدرها الرابطة الأميركية للعلوم المتقدمة (Science Advances Vol 5, No. 7, 03 July 2019)، جاءت بعكس آمال الفريق البحثي الكبير الذي قام بعمليات التنقيب، وأثبتت أن الفلسطينيين القدماء هم من نسيج المنطقة الجيني والحضاري، وليسوا قوماً همجياً وافداً من البحر. كما أثبتت نتائج تحليل الحمض النووي أن الفلسطينيين المعاصرين هم أعقاب أولئك القدماء، على الرغم من وجود تأثيراتٍ جينيةٍ طفيفة قادمة من أوروبا، ولكنها بقيت هامشيةً، ولم تعمّر على المدى الطويل. وكان لافتاً أن تكون التغطية الصحافية للحدث مجتزأة من النتائج، فركّزت على العنصر الأوروبي المفترض، الموجود في التركيبة الجينية، وتجاهلت العناصر المحلية المشرقية التي تشكل أعلى نسبةٍ في الرفات، بحيث بدا للقارئ غير المتخصص أن الرواية "التوراتية" عن شعوب البحر كأنها حقيقة علمية (العربي الجديد).
[8] كتب العالم د.جمال حمدان دراسته: اليهود انثروبيولوجيا ليرجعهم لعدة شعوب وقوميات، كما كتب اليهودي الهنغاري أرثر كوستلر كتا القبيلة 13 عن أصل يهود اليوم في منطقة قزوين-الخزر في روسيا، وكتب لاحقا عليه الإسرائيلي شلومو ساند اختراع "الشعب اليهودي"، وأشار أيضا للأصل الآسيوي الخزري ليهود اليوم منذ القرن 8 ميلادي كتاب جنود الله للمؤلفين: هوارد بوشارت وجون كرايغ، وماير بارنو، الناشر كنغستون يوكس، نيويورك 2001، وكتب في الموضوع المفكر فاضل الربيعي، كما كتب في أصل العرب الفلسطينيين والحضارة النطوفية في فلسطين وغيرها الأستاذ أحمد الدبش.
[9] يقول المفكرسلامة كيلة حول كتاب المسالة اليهودية لكارل ماركس: "ماركس كان يناقش مشكلة أوروبية، هي مشكلة الانغلاق اليهودي (الغيتو)، والدور المالي التاريخي رغم أن معظم اليهود كانوا قد أصبحوا فقراء، في الوقت الذي بات بعضهم من كبار رأسماليي أوروبا. لهذا كان يرى أنّ مبدأ المواطنة هو الذي يجب أن يحكم الرؤية مادام اليهود هم جزء من التكوين القومي في الأمم الأوروبية، بينما يُحلّ الدور المالي في إطار تجاوز الرأسمالية."