بعدما ساهم الغرب الرأسمالي الأوروبي بقسطه الأساس في تأمين احتياجات ومتطلبات بناء الوطن "القومي" لليهود الصهاينة في فلسطين، وأصَّل لذلك في تأسيس إسرائيل الاستعمارية على أنقاض نكبة الشعب العربي الفلسطيني عام 1948، وما تلا ذلك من الإسهام المباشر في توفير أعمدة وقواعد الدولة الاقتصادية والعسكرية من خلال الدعم المباشر، وتعزيز عملية البحث العلمي عبر الشراكة الثنائية، تولَّت الولايات المتحدة الأميركية تدريجيًّا دورها كحاضنة أساسية للدولة الإسرائيلية الاستعمارية، ليس ارتباطًا بنتائج الحرب العالمية الثانية، التي فتحت الباب أمام تسيُّد أميركا على الغرب الرأسمالي، إنما لأنَّها سباقة في تبني إقامة "وطن" لليهود الصهاينة في فلسطين لذات الأغراض الرأسمالية الأستعمارية. وبالتالي تبادل الأدوار بين أوروبا وأميركا في حماية المشروع الكولونيالي الصهيوني على الأرض الفلسطينية العربية لم يلغِ دور أي منهما في مواصلة الدعم الثابت له، وإن تباينت نسبيًّا في العقود الأخيرة كيفية الدعم للدولة الاستعمارية ارتباطًا بحساباتهما لآفاق المشروع الصهيوني، وعلاقة ذلك بحل المسألة الفلسطينية. 

ونتاج البرغماتية النفعية اليهودية الصهيونية، ومن خلال استشراف قياداتها لآفاق التطور في الإقليم والعالم، وضعت جزءًا كبيرًا من بيضها في سلة الولايات المتحدة بعد حرب العدوان الثلاثي 1956 على مصر، لأنَّها باتت قائدة المعسكر الرأسمالي، ونتاج تمركز الحضور والتأثير اليهودي الصهيوني في بلاد العم سام، الذي تجلّى بأذرع عديدة بدءًا من "الإيباك" (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية) مرورًا بنفوذه في المؤسسات التشريعية والتنفيذية والعسكرية ومراكز البحث الأميركية، والتي وصلت أخيرًا مع تولي إدارة الرئيس دونالد ترامب الحكم إلى حدِّ التماهي والتكامل والشراكة الكلية الإسرائيلية الأميركية في ترجمة وتنفيذ المخطط الاستعماري الصهيوني على الأرض الفلسطينية. ولم تعد القيادات الصهيونية المتطرفة في ظل حكم نتنياهو وأضرابه يشعرون بالحرج من الإعلان عن تغولهم، وجشعهم الاستعماري الاستيطاني في كلِّ الأرض الفلسطينية، وسحق وتصفية أية تسوية سياسية تتعارض مع ذلك. 

وبالتلازم مع حرب إدارة ترامب المفتوحة على حركة المقاطعة الأممية لدولة الاستعمار الإسرائيلية BDS، بادر أعضاء الكونغرس الأميركي مساء يوم الثلاثاء الموافق 23 تموز/ يوليو 2019 إلى تبني القرار رقم 246، الذي أيّده "الإيباك" بقوة، وحشد له الدعم، مما منحه 398 صوتًا مقابل معارضة 17 صوتًا وامتناع 5 أصوات، وجاء في القرار غير الإلزامي "رفض مجلس النواب صراحة التمييز ضد الدولة اليهودية من خلال المقاطعة الاقتصادية والثقافية والسياسية". وأكّد القرار "ضرورة زيادة المساعدات الأمنية" لإسرائيل. ولكنَّ القرار ربط ذلك بفقرة مهمة لصالح التسوية السياسية، تقول بضرورة العمل لتعزيز حل الدولتين. وهذا يعتبر اختراقًا نسبيًّا، لا سيّما أنَّ إدارة ترامب ترفض من حيثُ المبدأ تبنّي هذا الخيار. 

ورغم أنَّ قرار مجلس النواب الأميركي 246 غير موضوعي، ويتناقض مع روح الدستور الأميركي، لأنّه يمارس سياسة الحد من الديمقراطية، ويقيّد حرية الرأي والتعبير، ويتناغم كليًّا مع منطق الإدارة الترامبية الأكثر شعبوية في تاريخ أميركا، ومنحاز لدولة الاستعمار الإسرائيلية من خلال رفضه لحركة الـ"BDS" العالمية، ودورها الريادي في مواجهة التغول الاستعماري الإسرائيلي، وإسهامها الإيجابي بتعزيز روح السلام عبر مقاطعة السلع والبضائع الاستعمارية الإسرائيلية. إلّا أنَّ القرار نجح في إعادة التأكيد على خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967. الأمر الذي أثار ردود فعل إسرائيلية، تمثّلت بإرسال 21 نائبًا من أعضاء الكنيست رسالة للكونغرس مؤرخة في 12 آب/ أغسطس 2019 الماضي ترفض فيه وجود دولة فلسطينية، جاء فيها: "غير أننا نلفت نظركم إلى ما تضمنه القرار من خطأ جسيم، هو (مطالبتكم بالاعتراف بحل الدولتين) أي تأسيس دولة فلسطين في قلب إسرائيل الصغيرة، نعرب لكم عن رأينا بصراحة: إن إنشاء دولة فلسطين أخطر بكثير من إدانة حركة المقاطعة "BDS" لإنّه يدمر الأمن الإسرائيلي الأميركي. وهو فضلاً عن ذلك يتناقض مع توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب".

لنلاحظ مضمون الرسالة، فهي من جانب رحّبت بقرار الكونغرس، وموقفه المعادي لحركة المقاطعة العالمية، ولكنها اعتبرت دعمَ خيار الدولتين "خطأً جسيمًا" وهو "أخطر على دولة إسرائيل الصغيرة"، و"يدمّر الأمن الإسرائيلي الأميركي"، ولم تقل الأمن الإسرائيلي لوحده، وهي ما يؤكّدُ الشراكة في الحرب والعدوان المشترك لكليهما على مصالح وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ويشير إلى هدف السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الأرض الفلسطينية العربية، ورفض مبدأ إقامة أية دولة فلسطينية بين النهر والبحر. وهذا ما تتبنّاه إدارة ترامب الأميركية، والذي يكشف عن تناقض آخذ في الظهور والتجلي بين المؤسّستين التشريعية والتنفيذية بسبب التهافت الترامبي وفريقه الصهيوني، وسقوطه في دوامة معاداة التسوية السياسية من حيث المبدأ، والتنكُّر للحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية، وانعكاس ذلك على مصالح أميركا في المنطقة. وهذا الموقف على ضعفه، وهامشيته، غير أنه يمكن البناء عليه، وتعزيزه من خلال الحرث والمثابرة في أوساط المشرّعين والنخب الأميركية، وهذه مسؤولية الكل الفلسطيني والعربي وأنصار السلام في العالم لتصويب الخلل البنيوي في السياسة الأميركية القائمة.