هذا الحدث السياسي الإعلامي أثار العديد من التساؤلات المهمة حول الأسباب، والأبعاد، والخلفيات، والنيات الكامنة خلف هذا التحرك المدروس، وبالتالي ما هو المنتظر؟!
بادئ ذي بدْء، أن هذا الحدث جاء مرتبطاً بتطورات ساخنة تعيشها المنطقة بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص، سواء كان ذلك في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكلها تحت الاحتلال، أو في مناطق الشتات.
والذي لا يختلف عليه اثنان أن صفقة ترامب الصهيونية أبلغت الجميع، وبشكل وقح وجائر، بأن جوهر الصفقة هو تحقيق الحلم الصهيوني بوجود دولة يهودية قومية على الأراضي الفلسطينية التاريخية، وعاصمتها القدس، وأن هذه الدولة اليهودية مطلوب منها أن تستقبل كل يهود العالم، ليقرروا مصيرهم على هذه الأراضي الفلسطينية العربية الكنعانية، القائمة منذ خمسة آلاف سنة، أي قبل الديانة اليهودية التي جاء بها رسول الله موسى عليه السلام، هذه الديانة التي لا علاقة لها بالحركة الصهيونية، التي تتاجر باليهود لمآربها الخاصة.


وثانياً: أنَّ هناك خطوات عملية متسارعة لتهويد المقدسات، واستعمار الأرض الفلسطينية، وتهجير أهلها، وإقامة المستوطنات، وممارسة الاعدامات الميدانية. وبالتالي فإن فريدمان السفير الأميركي ومجموعته الصهيونية، أبلغت العالم بأنه لا توجد أراضي محتلة إطلاقاً، وإنما هي الأرض اليهودية التي ستستقبل اليهود العائدين، وأنه لا مكان لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لأن الأرض عادت إلى أصحابها حسب اعتقادهم.
هذا الأمر الذي تعتمده الولايات المتحدة من خلال صفقتها، التي تسعى إلى تدمير الحقوق الوطنية الفلسطينية، واستهداف ركائز وأعمدة الأهداف التي ناضل الشعب الفلسطيني من أجلها، منذ نكبة العام 1948، وما زال، والجميع يلمس، ويعلم تفاصيل الخطط، والآليات، والخرائط المرسومة، والترتيبات الموضوعة، والتي كانت ورشة المنامة الفاشلة واحدة منها.
ولعلَّ الأخطر في الموضوع، هو ما تتعرض له قضية اللاجئين الفلسطينيين، الذين ينتظرون حق العودة منذ واحدٍ وسبعين عاماً. وللتسريع في تعويض حق اللاجئين بالعودة، شنَّت واشنطن حرباً شعواء على الأونروا الشاهد الحي والأساس على هذه القضية، وقامت بقطع الأموال التي كانت تُدفع لها، وضغطت على العديد من الدول، بأن لا تقدم المساعدات المالية لها، واتهمتها بالفساد المالي لتشويه صورتها، وإنهاء دورها، من أجل تضييع حق عودة اللاجئين إلى أرض فلسطين استناداً إلى القرار 194.
على هذه الأرضية، نحن نناقش موضوع رفع اللافتات، أمام السفارات من قبل مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين مطالبين بالهجرة إلى كندا، ونسجِّل الملاحظات التالية من منطلق أننا جميعاً أبناء قضية شعب ناضل وكافح عشرات السنوات، ولم يستسلم، ولم يرفع الراية البيضاء.


أولاً: أن القضية الفلسطينية هي التي شهدت تاريخاً نضالياً طويلاً، وحافظت على استمرارها رغم المجازر والمذابح، والمعارك، وقدَّمت قوافل الشهداء، وعشرات الآلاف من الجرحى والأسرى، ولذلك نحن جميعاً معنيون بكرامتها، حتى نحقق أهداف آبائنا وأجدادنا، وشهدائنا الذين ضحوا من أجلنا.


ثانياً: في الوقت الذي يسعى يومياً ترامب ونتنياهو لتدمير قضية الفلسطينيين، وتصفيتها، لتهدئة خواطر ومخاوف الكيان الصيهوني، الذي يحسب ألف حساب لقضية عودة اللاجئين، ويسعى يومياً لتمزيقها، وتفتيتها، وبعثرتها في إطار مفوضية اللاجئين الدولية التي لا علاقة لها باللاجئين الفلسطينيين. ومن هنا وبغض النظر عن النيات عند الذين رفعوا اللافتات فقد كان الأوجب، والأسلم، والأصح أن نرفع اللافتات التي تطالب بدعم حق شعبنا في العودة إلى أرضه التي طُرد منها، ونطالب كندا أن تدعم حقوق شعبنا المشروعة، وأن نضغط على الولايات المتحدة لوقف المجازر السياسية والتصفوية، التي تستهدف الشعب الفلسطيني.


ثالثاً: إنَّ كندا كما استراليا وغيرها من الدول لا تخرج من سيطرة وإرادة واشنطن، وخطط ترامب الحالية، وهي معنية بإضعاف الإرادة الفلسطينية، وتفريغ قضية اللاجئين من مضمونها وقوتها. والسياسة الكندية وبناء على الموافقة الأميركية تستقبلك كلاجئ من أجل أن تكون مواطناً، وتمنحك ما تشاء من الأموال والامتيازات، والمهم تشتيت الشعب الفلسطيني المقيم في لبنان، وإبعاده عن الحدود التاريخية الفلسطينية، ثم دمجه في مجتمع آخر لا علاقة له بالقضية الوطنية الأم.


رابعاً: إن تهجير الفلسطينيين سواء من الداخل الفلسطيني، أو من الدول العربية المجاورة للحدود الفلسطينية التاريخية، هو هدف حيوي لتصفية الحقوق الوطنية. ولذلك سنجد اليوم أكثر من أي وقت مضى دولاً، وجميعات، ومؤسسات، وشخصيات تسعى جاهدة لتسيير قوافل المهاجرين، وبعشرات الآلاف من أجل تمرير مشروع صفقة القرن، والأهم إقامة الدولة القومية اليهودية على أرض فلسطين.


خامساً: إنَّ العيون الأميركية والإسرائيلية مُحمرَّة على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تحديداً، لأنَّ هذه المخيمات تشكل قاعدة المواجهة السياسية والشعبية والوطنية للاحتلال الاسرائيلي ومشاريعه العدوانية، التي استهدفت ومنذ انطلاقة الثورة هذا الوجودَ الفلسطيني الذي يعيش في بلد يكنُّ الاحترامَ والتقدير للقضية الفلسطينية، وهو بلدُ المقاومة الذي يعتبرُ القضيةَ الوطنية قضيةَ القومية. هذا الواقع يضعنا أمام مسؤوليات تاريخية، ويفرض علينا أن نكون حراساً على مخيماتنا، كي تبقى منارات مضيئة على طريق مسيرة التحرير الوطني، كما يفرض على شبابنا أيضاً حتى لو جعنا أن نبقى مشدودين إلى المخيمات، بانتظار العودة إلى أرض الوطن، وعندها سنحمل إلى فلسطين من لبنان شجرةَ الأرز التي نعتز بها كرمز لاستقلال لبنان.


سادساً: من حق أي إنسان أن يهاجر إذا وجد نفسه مضطراً بسبب قساوة الحياة، والمعيشة الاقتصادية، أو طلباً للعلم، أو بحثاً عن علاج وما إلى ذلك، وهناك مئات الآلاف من أبناء شعبنا هاجروا قبل النكبة وبعد النكبة، وخلال السنوات السابقة، ولكنَّ هؤلاء لم يرفعوا لافتات، ولم يقفوا بالمئات أمام السفارات، في الوقت الذي يدعو فيه توأمُ الشر ترامب – نتنياهو إلى طرد الشعب الفلسطيني من الأراضي الفلسطينية بكاملها، وتشتيت المشتتين في الخارج، والمؤامرة واضحة تستعد لابتلاع الضحايا. لا نتهم أحداً، ولكننا نقول، علينا أن تقرأ جيداً التطورات، وخبايا الأمور حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نسدد خُطانا.


سابعاً: نحن ندرك تماماً أوضاع المخيمات في لبنان، والصعوبات المعيشية، والحياتية، والأمنية، ومستوى البطالة المرتفع، والهم الذي يتحمله ربُّ الأسرة، ولذلك نحن لا نلوم من يُهاجر طلباً للعيش، شريطة أن يبقى معتزاً بانتمائه الوطني الفلسطيني، رافضاً للتوطين أو التنازل عن هويته الفلسطينية، وهذا ما عهدناه من كل أبناء شعبنا في الجاليات الفلسطينية.


ثامناً: إنَّ المطلوب من كافة القوى السياسية، والتنظيمية، والهيئات، وخاصة القوى الأمنية، والقوى الدينية أن تضع خلف ظهرها الخلافات الداخلية، وأن تسعى لتأليف القلوب، وتوحيد الصفوف، ومعالجة الأمراض الداخلية، ووضع حدٍ لكل حالات الفلتان، أو الخروج على القيم الوطنية، والأخلاقية، والاجتماعية، وإذا نجحنا في هذه المهمة الجوهرية وحققنا الانضباطَ، وحسن السلوك، والأُخَّوة سنجد بإذن الله مجتمعاً متماسكاً، يواجة المؤامرات، ويقاوم انتشار الفساد والرذيلة.
وعندما ينام ربُّ الأسرة مطمئناً مع أسرته في بيته بعيداً عن الخوف، والرعب، والقلق، والاعتداء عليه أو على ممتلكاته وحقوقه، لن يفكر بالهجرة الجماعية طالما لقمة العيش متوافرة عنده. وسنجده أكثر التصاقاً بالمخيم وببيته الذي عاش فيه جُّده أو والده، وهنا نحافظ على رمزية المخيم، وقدرته على الصمود بوجه التحديات والمؤامرات الساعية إلى فك ارتباطنا بأهدافنا، ومبادئنا وتطلعاتنا.
وأتمنى أن يقوم جميع المعنيين باللاجئين الفلسطينيين، والمخيمات من قوى وطنية وسياسية واجتماعية أن يعيدوا حساباتهم جيداً، وأن يدققوا في أوضاع مخيماتهم، والسهر على أمنهم حتى نضمن الصلابةَ، والوعي، والحرص الجماعي على رمزية المخيم الذي عايشنا فيه مرارة النكبة، والمصاعب، والمتاعب.


عضو المجلس الثَّوري

الحاج رفعت شناعة