منذ تسعين عامًا لامست روحه الدنيا، ففاح مسك نضالها في الأرض. الرابع من آب ١٩٢٩ هو اليوم الذي وُلِدَ فيه الأب الروحي للقضية الفلسطينية، وأحد أهمّ مؤسّسي حركة "فتح" وجناحها المسلّح، وأيقونة الثورة الفلسطينيّة التي ارتبط بها وارتبطت هي به، قائد الحوار والحكمة، الشهيد الرمز ياسر عرفات "أبو عمار".

انخراطه في العمل النضالي

لم يعش ياسر عرفات طفولته وشبابه كسائر أقرانه وزملائه، فقد كان مولعًا بالسياسة، والشؤون العسكرية، وبدأ حياته في خنادق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولكنَّ هذا الشغف الوطني والاندفاع لمواجهة العدو لم يأتيا من فراغ، بل بعد عدّة مضايقات تعرّض لها في طفولته من قِبل الاحتلال. ففي الخامسة من عمره توفيت والدته، وعندها أُرسِل للعيش مع عمّه في مدينة القدس، وكانت هذه المحطة في حياته مليئةً بالمشاهد القاسية، ومنها الاقتحامات لمنزل عمّه لا سيما بعد منتصف الليل من قِبَل الجنود البريطانيين، لتفتيش المنزل وتحطيم الأثاث، علاوة على الاعتداء بالضرب على أفراد الأسرة. 

وبعد أربع سنواتٍ في القدس، أعاده والده إلى القاهرة، حيثُ كانت شقيقته الكبرى تعتني به وبإخوته. 

قبل أن يُتمَّ السابعة عشرة من عمره، تمكَّن من تهريب الأسلحة من مصر إلى الثوار في فلسطين لاستخدامها ضدَّ البريطانيين واليهود. وفي التاسعة عشرة من عمره، وإبان وقوع النكبة، ترك عرفات دراسته في جامعة الفؤاد (جامعة القاهرة لاحقًا) لمحاربة اليهود في مدينة غزّة، وشعر بالغضب والإصرار على ضرورة الانتقام لأبناء شعبه الذي هجّره الاحتلال وارتكب بحقِّه أفظع المجازر وسلبه أرضه لإقامة دولته (إسرائيل).

سافر عرفات لمتابعة تحصيله العِلمي في تخصص الهندسة بالقاهرة، ولكنَّ ذلك لم يمنعه من متابعة الشؤون الفلسطينية بكل تفاصيلها. وخلال فترة دراسته كوَّن رابطة الخريجين الفلسطينيين التي كانت محط اهتمام كبير من قِبَل وسائل الإعلام المصرية آنذاك، واشترك إلى جانب الجيش المصري في صد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

 

بداية العمل السياسي والثوري

في عام 1958، سافر ياسر عرفات إلى الكويت ليعمل مهندسًا، وهناك كوَّن وصديقه خليل الوزير (أبو جهاد) خلية ثورية أُطلق عليها اسم "فتح"، وهو اختصار معكوس لـ"حركة تحرير فلسطين"، وأصدر مجلةً تعبّر عن هموم القضية الفلسطينية تحت اسم "فلسطيننا- نداء الحياة"، وحاول منذ ذلك الوقت إكساب هذه الحركة صفة شرعية، فاتّصل بالقيادات العربية للاعتراف بها ودعمها، ونجح بالفعل في ذلك، فأسّس أول مكتب للحركة في الجزائر عام 1965، مارس عبره نشاطًت دبلوماسيًّا.

وقاد عرفات الكثير من العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، التي انتصر وبرز اسمه فيها. كما شغل أكثر من منصب ومهمة على مستوى حركة "فتح" ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية. وعُرِف كرائدٍ للعمل الوطني والنضالي في مختلف الميادين، وكواحدٍ من أهم رموز النضال والشخصيات العربية المحورية في الصراع العربي الإسرائيلي. 

 حُوصر مرات عدّة، وتعرّض لأكثر من محاولة اغتيال من قِبَل العدو الصهيوني، وكان ينجو من الموت بأعجوبة وبقدرة إلهية تجعله يعود للحياة أكثر تمسُّكًا بالقضية الفلسطينية.

 

في كلِّ فلسطيني هناك ياسر

  فجر الحادي عشر من تشرين الثاني عام 2004 رحل أيقونة القضية الفلسطينية ياسر عرفات في مستشفى بيرسي بفرنسا حيثُ كان يعالَج، بعد دخوله في غيبوبة عميقة وتعرُّضه لنزيف داخلي عطّل جزءًا من الدماغ.

وفي عام 2012، كشف تحقيق لقناة الجزيرة استمرّ تسعة أشهر عن وجود مستويات عالية من مادة البولونيوم المشع والسام في مقتنيات شخصية له استعملها قبل فترة وجيزة من وفاته -بعد فحوصات أجراها مختبر سويسري مرموق- ليبدأ تحقيق رسمي في القضية، استُهلّ باستخراج عينات من رفاته في أواخر 2012.

 

رحل أبو عمّار وخسرت الأمة العربية قائدًا بحجم الوطن، روحًا للقضية الفلسطينية، ورمزًا للوحدة الوطنية، رحل مَن قال: "ليس فينا، وليس منّا، وليس بيننا من يفرّط بذرة تراب من القدس الشريف". ولكنَّ الياسر سيبقى الفصل الأطول في حياتنا، ذاك الإنسان الذي عاش رماد النكبة وجمرة المقاومة إلى فكرة الدولة، وفي داخل كل واحد منا سيبقى شيء من الشهيد الرمز الخالد ياسر عرفات.

تقرير: فاطمة المجذوب