عندما تتوقّفُ الحركاتُ السياسيةُ عن مواجهةِ التحدياتِ فهذهِ أولى علاماتِ تراجعِها كمقدّمةٍ لتلاشيها، هذا يعني أنّ المقياسَ الحقيقيَّ لحيويةِ تلكَ الحركاتِ هو استعدادُها الدائمُ للمبادرةِ والفعلِ أولًا، مع جهوزيتِها للتعاملِ معَ كلّ ما يُنتجهُ الواقعُ من صعابٍ وتحدياتٍ، وكذلكَ ما يَفرضهُ خصومُها وأعداؤها من وقائعَ على الأرضِ. من هنا تنبعُ أهميّةُ المؤسساتِ المسؤولةِ عن وضعِ البرامجِ والخططِ، والمسؤولةِ بنفسِ القدرِ عن اتخاذِ القراراتِ المناسبةِ في الحالاتِ الطارئة.
لا وجهَ شبَبهٍ بينَ ضوابطِ عملِ مؤسساتُ الحركاتِ الثوريةِ وتلكَ التي تتميزُ بها الأحزابُ السياسيةُ في الدولةِ المستقلة والمستقرّةِ. هذا لا يعني مطلقًا أنْ تتخلى الحركاتُ الثوريةُ عن الاحتكامِ إلى الوسائلِ الديمقراطيةِ في تنظيمِ حياتِها الداخليةِ، سواءً في مجالِ انتخابِ الهيئاتِ القياديةِ أو فيما يخصّ آلياتِ اتخاذِ القرارِ. لكنّ ما يميّزُ الحركةَ الثوريةَ هو التزامُها بأخلاقياتِ العلاقةِ الأخويةِ الداخليةِ التي تضمَنُ الانتباهَ إلى القياداتِ الناشئةَ دونَ التعاملِ معها بريبةٍ وخشيةٍ من أنْ تصبحَ منافسًا محتملًا للقيادةِ الحالية، وهو كذلكَ التزامُ القياداتِ الناشئةِ واستعدادُها الدائمُ للاستفادةِ من تجربةِ من سبقَهم، ففي حياةِ الحركةِ الثوريةِ لا مجالَ لاستخدامِ قوانينِ الحساباتِ الانتخابيةِ وما يحكمُها من عُقْمِ عقليةِ المنافسةِ والتحالفاتِ واستقطابِ المؤيدينَ واستغلالِ نقاطِ ضعفِ الخصومِ والأنداد.
لا تحظى "فتح" عادةً بترفِ امتلاكِ الوقتِ الكافي للاهتمامِ بوضِعها الداخليّ وانتظامِ الحياةِ في هيئاتِها القياديةِ، ورغمِ عَقْدِها لمؤتمَرَينِ عامّين في فترةٍ قياسيةٍ مقارنةً مع تجارُبِها السابقةِ، إلا أنّ تفرّغها اليوميّ للتصدّي للمهمّاتِ الجسامِ التي تواجهُ شعبَنا وقضيتَهُ الوطنيةَ يجعلُ المراقبَ يصلُ إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ الحياةَ الحركيّةَ الداخليّةَ وصلتْ إلى درجةِ التجمّد.
مخطئٌ من يظنُّ أن انشغالَ فتح بكلّ مكوّناتها بمعركةِ الصمودِ أمامَ صفقةِ القرنِ وطوابيرِ التطبيعِ العربيّ مع دولةِ الاحتلالِ الاستيطانيّ يُمكنُ أن يَصرفَ أنظارَ أبنائها عن أهميةِ الأوضاعِ الداخليةِ للحركةِ وانتظامِ دورةِ الحياةِ في مؤسساتِها، والأجدرُ بقيادةِ الحركةِ قبلَ غيرِها أن تضعَ هذهِ الحقيقةَ نصبَ عينَيها وهي تقومُ بواجبِها المستندِ إلى متطلباتِ أنظمةِ الحركةِ ولوائحها وقراراتِ مؤتمراتِها وهيئاتِها القيادية، فلا شيءَ يثيرُ حفيظةَ الفتحويينَ أكثرَ من شعورِهم بأنّ هناكَ تجاهُلًا متعمّدًا لتطلّعاتِهم التي يكفلُها النظامُ وتضمنُها التقاليدُ الغنيّةُ المستندةُ إلى تجربةُ الحركةِ النضاليةِ الطويلةُ.
عنادُ الفتحويينَ في مواجهةِ "صفقةِ القرنِ" ووقوفُهم بثباتٍ خلفَ الموقفِ الوطنيّ الشجاعِ للقيادةِ الوطنيةِ للحركةِ وللشعبِ الفلسطينيّ يقابلُهُ عنادٌ لا يقلُّ صلابةً في تمسّكِهم بشفافيةِ وعدالةِ القراراتِ المنظِّمةِ للحياةِ الداخلية.
قيادةُ "فتح" تُدرِكُ هذهِ الحقيقةَ جيّدًا، لأنّها تستمدُّ عنادَها وصمودَها في وجهِ أكبرِ إمبراطوريةٍ عرفها التاريخُ من العنادِ الذي جُبِلَ منهُ شعبُنا ومنهم -بل في مقدّمتِهم- الفتحويّون.