وصلني بحث من الكاتب حسن العاص بعنوان "المونوفيجن الفكري.. أزمة العقل العربي"، بتاريخ 30 أيار/ مايو الماضي، يحتوي البحث على 2947 كلمة، سطرها المغترب الفلسطيني في تعميق قراءته لأزمة العقل العربي، وحاول عبر الزج بكم من المقولات، والاستشهادات (الاقتباسات) واستحضار نماذج تاريخية من التجربة التاريخية العربية، لمنح شهادته الملتبسة، وأحادية الجانب القيمة الفكرية، أو الإسهام النظري الذي يطمح له.
لم يكن الكاتب حسن العاص الأول من بين من كتبوا حول أزمة العقل العربي، بل سبقه كثيرون من القامات الفكرية العربية، رغم أنه حاول أن يميز نفسه من خلال أدواته المعرفية. وأنا في هذه العجالة لا أدّعي أنّني سأناقش البحث بالتفصيل، وردًّا على كل مقولة، إنما سأحاول تكثيف ردي، بحيث أجيب على ما أراه من وجهة نظري معالجًا ما حمله البحث من مغالطات، أو إسقاطات رغبوية غير موضوعية.
بعد المقدّمة يجول الشاب حسن العاص على مفاصل وأسباب أزمة العقل العربي، وجلها تتجلى في نقطة مركزية واحدة، هي "الإقصاء"، فجاءت عناوينه الفرعية كالتالي: فلسفة الإقصاء؛ الإقصاء الديني؛ الإقصاء الثقافي؛ المونوفيجن العقلي؛ الخيال العربي والأقليات؛ الإقصاء في الإسلام. ومن الكلمة الأولى حتى آخر حرف غاص الكاتب في أزمة العقل العربي.
ويخطئ أي مفكر عربي ينكر وجود أزمة عميقة فكرية وسياسية ودينية وثقافية واقتصادية واجتماعية في المجتمعات العربية من مشرقها إلى مغربها. غير أن التأكيد على الأزمة، لا يعني التسليم بأن الأزمة تكمن في العقل العربي، وكأن العقل العربي ولد ميتا، وغير قادر على الإنتاج والإبداع. كما لا يجوز لأي كاتب أو باحث تجاوز الواقع الموضوعي وتداعياته على العقل العربي، وارتداداته على تغييب المناخ الصحي لعملية المثاقفة الداخلية والخارجية. وأيضا من الخطأ الفادح التنكر، وإغفال إسهام الفكر والعقل العربي في إغناء العلوم الإنسانية بمستوياتها المختلفة، فلولا إسهامات العرب والمسلمين في علوم الطب والفلك والهندسة والكيمياء والرياضيات عموما والجبر خصوصا .. إلخ، لما تمكنت أوروبا بالتحديد والعالم عامة من النهضة، التي تعيشها، وبالتالي الركود والأزمة المعرفية والإبداعية في المجتمعات العربية، ليست أصيلة، وإنما طارئة ومشروطة بجملة من العوامل، أهمها العامل الموضوعي، الذي لعب دورا حاسما ومقررا في آن، دون إنكار أو التغاضي عن قصور وتخاذل العامل الذاتي.
ودون الغوص في نقاط الباحث المتعددة، وبالتركيز على أبرز المفاصل، فإن عامل الإقصاء، موجود في كل المجتمعات الإنسانية وفي كل المحطات التاريخية، وليس محصورا في المجتمعات العربية. ولو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر المجتمع الأميركي، والمجتمعات الأوروبية والروسية والصينية وغيرها، ماذا نجد؟ ألا نرى بالعين المجردة عمليات الإقصاء الدينية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفكرية والعرقية ووفق السمات الخاصة بتطور هذه المجتمعات؟ لماذا تقتصر الرؤية على المشهد العربي، وتضخيم أزماته، وغض النظر عن المجتمعات البشرية الأخرى؟ ولماذا تم لي عنق الحقيقة، وحصر التشوه المقصود في العقل العربي، الذي كان له الفضل الكبير في تطور العلوم والحضارة الإنسانية؟ ولماذا لم تقرأ المشهد بهدوء وموضوعية علمية للخروج باستخلاصات واقعية، وإسهامات تغني الموضوع؟ وهل المطلوب من قبل البعض لتأكيد "موضوعيته"، أن يمارس جلد الذات العربية صباح مساء لغايات غامضة وملتبسة؟
العقل العربي، هو عقل منتج ومبدع وخلاق، وقادر على الإسهام في مختلف حقول العلم والمعرفة، وفي مختلف الأزمان والعصور والحقب، ومن يعود لتسليط الضوء على الكفاءات العربية دون تمييز في وكالة الفضاء الأميركية، وفي الذرة، والطب، والفيزياء والكيمياء والهندسة، وثورة الاتصالات والمعلومات، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية سيجد المئات وعشرات الآلاف من العقول العربية المنتشرة في فضاء العالم كله. لأن الدول العربية غير قادرة على استيعاب هذه الكفاءات، وأغلقت الأبواب أمامها، ما اضطرها للبحث عن الذات في عوالم أخرى، ووجدت نفسها في الدول المتطورة، ومن بقي في الأوطان العربية، بقي أسير الواقع البائس، الدولة الوحيدة وبشكل استثنائي، التي بحثت عن العقول والكفاءات العربية وجلبتها للأرض العربية، هي العراق زمن الراحل صدام حسين، ثم قامت أجهزة الأمن الأميركية والإسرائيلية بملاحقة تلك العقول، واغتالت من اغتالت منهم، ومَن قبل التعامل بقي على قيد الحياة.
وردًّا على مقولة الكاتب الأميركي، فرانك هربرت، التي تقول: "لم يخلق الناس سواسية، وهذا أصل فساد المجتمع"، التي يستشهد بها الكاتب، وأعود لأسأله، كيف يمكن لك أن تتعامل مع هذه المقولة؟ وهل تنطبق مقولته فقط على المجتمعات العربية؟ أوليست التناقضات، وعدم المساواة قائمة وموجودة منذ عصر الأسياد والعبيد؟ وكيف تطورت المجتمعات الأخرى، رغم الفساد؟ أو بتعبير آخر، هل الفساد حال دون تطور البشرية؟ ألم يكن الفساد ملازما لحياة المجتمعات البشرية؟ أم ان أفلاطون تمكن، ونحن لا نعلم من بناء دولته الفاضلة؟ اضف إلى أن مقولة الكاتب هربرت غير دقيقة، لأن للفساد أبوابًا ومجالات مختلفة، قد يكون عدم المساواة أحدها، لكنها ليست سوى جزيئة ضيقة جدا في ما ذهبت إليه.
وعن المونوفيجن الفكري، الذي لا يمكن اعتباره إسهاما للكاتب العاص، لأن ضعف النظر لا يلغي إبداع العقل، فهذا طه حسين، أبدع وهو لا يرى، وكثر هم العلماء في ميادين العلم المختلفة، الذين لديهم إعاقات وأنتجوا معارف عظيمة، ولديهم براءات اختراع عبقرية. وبالتالي المقاربة بين ضعف النظر، وضعف العقل، وتراجعه عن العطاء فيها مجافاة للحقيقة، واغتراب، وإسقاط رغبوي لخدمة استنتاج بعينه، ولأن العقل العربي لم يصل إلى حد العجز، ومازال فتيا، ومبدعا، ولكن المشكلة ليست في العقل، بل في المنظومة المحيطة به، والحاضنة له، التي لم تسلط الضوء عليها بشكل عميق وموسع، هي الأنظمة الاستبدادية تاريخيا وحاضرا، التي أعاقت العقل العربي، وأيضًا الاستعمار الغربي والصهيوني اللذين لعبا دورا مهما في حرف بوصلة المجتمعات العربية، وقتلت، أو اختطفت الكم الكبير من الكفاءات المبدعة لسوق عملها.
وباختصار حول حرب "داحس والغبراء" وغيرها من الظواهر، كاسم شهر "صفر" من الواضح أن الكاتب، الذي يعيش في أوروبا لم يقرأ تاريخها، ولا تاريخ شعوبها، ولا حروب الـ30 عاما، والمئة عام، ولم يتوقف أمام إقامة كنيسة جديدة مشتقة من الديانة المسيحية كالكنيسة البروتستانتية (الأنجليكانية) وخلفية نشوئها...أتعلم السبب، أم أوضحه مجددًا؟؟ إنه يعود لهدف ذاتي وشخصي قاده هنري الثامن في إنجلترا، الذي شق الكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة الكاثوليكية في روما لتبرير زيجاته الست، حتى يتمكن من إنجاب ولد ذكر ليخلفه في الحكم ليحافظ على أسرة تيودور.. إلخ من الظواهر، التي لا تخطر على بال. ولم أشأ التوقف أمام الديانة اليهودية وإسرائيل وتخلفها، وعقمها وبؤسها، ورغم ذلك لم تتأثّر العقول المبدعة في أوساط اليهود بالظواهر السلبية والمعيقة، ولم تنم على وسائد الخمول، والعقل العربي مازال يافعًا، ومنتجًا، رغم كل عوامل التهميش والإقصاء، التي يعاني منها.
شكرًا للجهد الذي بذله الباحث حسن العاص، رغم مجافاته للحقيقة، وخانته الفطنة في تقديم قراءة موضوعية وإبداعية، وتخلق مقاربة أكثر انسجامًا مع مركبات الواقع العربي في سيرورته وصيرورته.