مشروع التسوية الأمريكي الجديد والمُسمَّى (صفقة القرن) ينبني على اعتقاد أنَّ كل المقاومات السابقة لإسرائيل وللتسوية الأمريكية قد انهارت، وأنّ الفلسطينيين لم يعودوا قادرين على الصمود، وهو اعتقاد سيكتشف الأمريكيون أنَّه في غير محله، ومؤتمر المنامة بكلِّ إغراءاته الاقتصادية لن يحقِّق ما فشلت فيه (إسرائيل) بالإرهاب والسلاح.
مشروع التسوية الجديد يثير ضجيجًا أكبر وتخوفات أكثر من كل مشاريع التسوية الأمريكية السابقة، ليس لأنَّ الفلسطينيين باتوا جاهزين للخضوع والتسليم بالأمر الواقع بل لأسباب أخرى، منها ارتباطه بشخص الرئيس الأمريكي ترامب المثير بذاته للجدل، والذي يهوى الضجيج والإثارة الإعلامية، ولأنَّ كثيرًا من بنود الصفقة تمَّ تنفيذه بالفعل على أرض الواقع وستكون ورشة البحرين -إن عُقدت في موعدها- كاشفةً للصفقة وليست مؤسِّسة لها. هذه عوامل موجودة وتؤخَذ بعين الاعتبار بلا شك، ولكنَّ السبب الأهم في رأينا الذي شجَّع ترامب هو حالة الضعف والاستلاب والخنوع عند دول عربية، وخصوصًا خليجية، تبتزها واشنطن بالخطر الإيراني وبإثارة الفوضى داخليًّا، وهي حالة جعلت الإدارة الأمريكية تعتقد بأنّ هذه الدول مستعدة ليس فقط للتخلّي عن مسؤوليتها القومية تجاه الشعب الفلسطيني، بل المشاركة الفعلية في تصفية القضية الفلسطينية من خلال التمويل المالي للصفقة، وهو التمويل الذي بدونه لن تنجح الصفقة.
الفلسطينيون اليوم وبالرغم من أنَّ وضعهم الداخلي هو الأكثر ضعفًا من أية مرحلة سابقة فإنَّهم لن يتنازلوا أو يتخلوا عن حقوقهم المشروعة، نقطة الضعف الآن في القضية الفلسطينية تكمن في الموقف الرسمي العربي الرخو بل والمتآمر والذي انقلب حتى على المبادرة العربية للسلام، إذ إنّ المشاركة في ورشة المنامة معناها التخلّي عن المبادرة وترك الفلسطينيين وحيدين في الميدان في مواجهة (إسرائيل) والإدارة الأمريكية الأكثر تطرُّفًا وصهيونيةً من الصهيونية ذاتها  .
فعندما تُساق دول عربية كبرى، وخصوصًا خليجية، بالإكراه وتحت التهديد إلى مؤتمر البحرين فهذا معناه ليس فقط أنّها موافقة على الصفقة الأمريكية بل وستضطّر لتمويلها، ولا تغرّنا مزاعم هذه الدول التي تقول إنّها تشارك من أجل دعم الفلسطينيين اقتصاديًّا، ذلك أنَّ المال المرصود في الصفقة لن تسمح واشنطن للدول العربية بتقديمه للفلسطينيين إلّا إذا التزم هؤلاء بكل عناصر الصفقة الاقتصادية والسياسية.
كم هي باهتة وسخيفة مزاعم الدول ورجال الأعمال الذين سيشاركون في مؤتمر المنامة، فلو كان المشاركون صادقين في مزاعمهم بدعم الفلسطينيين لكانوا قدّموا هذه الأموال مباشرة للفلسطينيين قبل المؤتمر، وقد ناشدهم الرئيس أبو مازن أكثر من مرة، وآخرها في مؤتمر وزراء الخارجية في أبريل الماضي، بتفعيل شبكة الأمان المالي، وخصوصًا بعد الحصار المالي الذي فرضته (إسرائيل) وواشنطن على السلطة الوطنية أخيرًا بهدف ابتزازها والضغط عليها للتساوق مع صفقة القرن .
بالرغم من كون الحالة الفلسطينية منقسمة وضعيفة فإنَّ تعاطيها الإيجابي المُعلَن مع الصفقة غير وارد، فالجميع رسميًّا وشعبيًّا يرفضها، إلّا أنَّ الخشية تتأتى من التعاطي السلبي بمعنى الرفض العلني دون استراتيجية أو موقف موحَّد لكيفية مواجهتها وتعطيلها. أيضًا الصفقة لن تنجح إن كان هدفها حل الصراع، لأنَّ الحل يحتاج لموافقة الشعب الفلسطيني، ولكنَّها قد تحقق درجة من التقدُّم إن كان هدفها إعادة تدوير فكر ونهج المفاوضات لإدارة الصراع وكسب الوقت وخصوصًا أنَّ الصفقة مشفوعة بإغراءات مالية قد تبدو مغرية في ظل الوضع الاقتصادي السيّئ الذي تمَّ افتعاله بداية في غزة ثُمَّ في الضفة الغربية.
وفي هذا السياق، فإذا كان حصار غزّة وما نتج عنه من فقر وجوع وبطالة والحصار المالي للسلطة في رام الله من خلال منع أموال المقاصة وقطع واشنطن مساعداتها للسلطة وتردُّد العرب في تفعيل شبكة الأمان المالي، إذا كانت هذه الإجراءات شجَّعت ترامب على طرح صفقة القرن وخصوصًا في شقها الاقتصادي، فإنَّ الرقم الفلسطيني الصعب يتمثَّل في ثبات صمود الفلسطينيين أمام الإغراء الاقتصادي تحت ضغط حاجة الشعب وضغط دول عربية ذات شأن.
وأخيرًا، وبالرغم من التهويل والتضخيم الإعلامي والابتزاز السياسي والمالي، فإنَّه بالإمكان تعطيل الصفقة ورفع الغطاء عنها، عربيًّا بعدم مشاركة أكبر عدد من الدول العربية في مؤتمر البحرين، وفلسطينيًّا باستمرار الرفض المشفوع بمصالحة وطنية عاجلة، ونحنُ على يقين باستحالة نجاح أية تسوية دون مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية الممثِّل الشرعي والوحيد، وسيبقى الفلسطينيون الرقم الصعب لأنّه لا يمكن لأي مشروع تسوية أن يتجاوزهم، ولا يمكن لأية دولة عربية أو كلّها مجتمعةً أن تتجاوزهم، ولو كان في الإمكان حدوث ذلك لتمَّت تصفية القضية منذ عقود.