مع أنَّ الإدارة الأميركية القائمة، وفريقها الصهيوني يسابقون الزمن في تنفيذ خطوات صفقة القرن المشؤومة دون الإعلان عنها، وهي التي باتت واضحة وجلية، ولا تحتاج لكبير عناء لاستكمال خطواتها اللاحقة، لكنَّ الإخراج الكلّي لتفاصيلها يشوبه الإرباك، والتعثُّر، والغموض أحيانًا، وتدوير الزوايا كلَّما أقدمت على أيِّ جزئية جديدة منها، ويُلاحَظ الإعلان ثُمّ التراجع، ثُمَّ وضع فرضيات ومواقيت متعدّدة ومختلفة ومتباينة، والوقوع في سياسة "التحزير"، وهو ما يُدلِّل على أنَّ الرئيس ترامب وفريقه يعيشون حالة من اللايقين بمشروعهم فاقد الأهلية والمصداقية والمسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية وحتى الدينية، وإن كان البعد الديني يشكِّل الناظم والهاجس لمشروعهم التخريبي، والمتمثِّل بتماهيهم مع المشروع الصهيوني لتحقيق مآربهم في الإسراع بإشعال فتيل حرب يأجوج ومأجوج.
مع ذلك علينا أن نلاحظ جيّدًا أنَّ الإدارة الأميركية تركض في كلِّ الاتجاهات، لا تتوقَّف في نقطة بعينها، وفي حال تعثّرت، أو واجهت عقبات في طريق أي خطوة، تقوم فورًا بالانتقال إلى خطوة جديدة، وتبقى تضخّ معطيات ومعلومات، أو مواقف عن الصفقة، مع مواصلة الهجوم على القيادة الفلسطينية بهدف محاصرتها، وتضييق الخناق عليها، ومحاولة لي ذراعها، وحشرها في الزوايا الميتة، ولا تمل من النكسات التي تتعرَّض لها في الترويج لبضاعتها الفاسدة.
آخر تقليعات وإنتاجات فريق إدارة ترامب الصهيوني الثلاثي: (كوشنير، غرينبلات، فريدمان)، هو عقد مؤتمر اقتصادي في المنامة، العاصمة البحرينية في 25و26 حزيران/ يونيو 2019، أولاً لمناقشة التمويل لعدد من المشاريع في قطاع غزّة والضفة؛ ثانيًا لإنشاء بيئة مشجّعة للاستثمار؛ ثالثًا جلب مستثمرين جدد؛ رابعًا تشبيك العلاقات الاقتصادية البينية الفلسطينية الإسرائيلية والأميركية مع الدول العربية؛ وخامسًا فتح باب الاجتهاد لتطوير المشاريع المطروحة، أو طرح مشاريع جديدة تتوافق مع مشروع الصفقة.
وحسب كوشنير وغرينبلات ستتم دعوة عدد من الوزراء المختصّين من دول الإقليم والعالم، وكذلك خبراء اقتصاديين، ومستثمرين من بقاع الأرض لتوريطهم في المياه الآسنة للصفقة الميتة أصلاً. وهو ما يشير بشكل واضح إلى أنَّ الفريق الصهيوني المختص بالصفقة يعمل بكل ما أوتي من قوة لتمرير الحل الاقتصادي، الحل الذي ينادي به نتنياهو، وبمعزل عن الجذر السياسي لمسألة الصراع. مع أنّ إدارة ترامب  تعلم جيّدًا، أنّ القيادة الفلسطينية رافضة من حيث المبدأ الصفقة، ولا تقبل بها، وهذا ما أعلنه الرئيس أبو مازن مرات عديدة، كما أنَّ بيانات ومواقف الهيئات القيادية الفلسطينية المتوالية، تؤكّد باستمرار رفضها لصفقة العار.
يمكن لإدارة ترامب أن تدعو من تشاء، وتقرّر عقد ورشتها، أو مؤتمرها في أيِّ بقعة عربية، أو كما فعلت سابقًا في وارسو (بولندا)، ويمكن للأشقاء أن لا يبلغونا عمّا يجري في بلدهم لاستهداف قضيتنا، ويمكنهم أن يبقوا أسرى الولاء والتبعية لإدارة ترامب، ولكن لا ترامب، ولا فريقه الصهيوني، ولا الأشقاء العرب، ولا غيرهم يستطيع أن يملي على القيادة الفلسطينية حضور الورشة الأميركية، والتساوق معها، أو التخلّي عن الأهداف والثوابت الوطنية الفلسطينية، ولا عن خيار السلام وحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، المرتكز إلى قرارات ومواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة، ومرجعيات عملية السلام، ومبادرة السلام العربية. وبالتالي المقترح الأميركي، مقترح مرفوض، لأنهّ لا يستقيم مع مرتكزات عملية السلام، ويبتعد كثيرًا جدًّا عن الجذر السياسي لمسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
مَن يريد تحقيق قفزة حقيقية، ودخول التاريخ من أوسع أبوابه، عليه أن يعود للجذور السياسية للصراع، ويفرض على دولة التطهير العرقي الإسرائيلية الالتزام بدفع استحقاقات عملية السلام، التي حدَّدتها وفق أولوياتها الأربع مبادرة السلام العربية، وبالتالي إعطاء الشعب العربي الفلسطيني الحد الأدنى الممكن من حقوقه التاريخية في أرض وطنه. دون ذلك يبقى مجرّد ترهات، وخزعبلات لا تسمن ولا تغني من جوع. نحن لسنا ضد تشجيع الاستثمار في وطننا الفلسطيني، ولكن الاستثمار المرتبط ارتباطًا عميقًا بمشروع الحل السياسي، وتأمين استقلال وسيادة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، والقدس الشرقية عاصمتها الأبدية، وضمان عودة اللاجئين على أساس القرار الدولي 194. هل ترتقي الإدارة الأميركية لمستوى التحديات وتفرض على (إسرائيل) الحل السياسي المذكور، أم ستبقى تراوح في مربّع الصفقة الميتة؟