هذا ليس بالعدوان الجديد، ومن المؤكَّد أنّه لن يكون الأخير الذي يتعرّض له قطاع غزة، كما أن الحاجة للوحدة الوطنية ليست جديدة، ولا يمكن التقليل من أهميتها في السابق. لكن فيما تغيب الوحدة الوطنية وتظل حبيسة قفص الانقسام، فإنّ العدوان على شعبنا مستمر ومتصاعد ولا يتوقف. ويظل السؤال في ظل كل تلك الأوضاع المأساوية التي يتعرض لها شعبنا في كل مكان، خاصة في قطاع غزة ساحة الانقسام، ألا يبدو جديرًا إعادة التفكير الحقيقي والجدي في استعادة الوحدة الوطنية حتى لو من باب الخجل من دموع أمهات وزوجات وأطفال الشهداء وإعطاء القليل من الأمل لهم بأن ثمة مستقبلًا أفضل ينتظرهم؟

من المؤكد أن غياب الإرادة عند بعض المستفيدين من الانقسام، والعمل المستمر على استدامة الانقسام، لا يعكسان شعورًا حقيقيًا بمستوي التحديات التي تواجه شعبنا ولا بالمخاطر التي تحيق بمستقبله. ففيما يتواصل العدوان ويواصل شعبنا صموده الأسطوري النابع من تمسكه الأزلي والأبدي بأرض آبائه وأجداده، ورفضه لأي محاولة اقتلاع جديدة له، يتواصل الانقسام ويتم تغذيته ومأسسته على قاعدة أن هناك مصلحة وطنية لدي البعض في ذلك. الانقسام ليس مصلحة وطنية وليس ذا نفع للوطن، حتى لو ظن بعض أربابه أنهم مستفيدون منه. فالكل متضرر من الانقسام؛ لأن المستقبل متضرر، ومن عطب مستقبله لا يمكن أن يصلح واقعه الحالي.

إنّ قراءة أبعاد ما يجري وكيف تستثمر دولة الاحتلال كل عدوان من أجل تعظيم مصالحها، يجب أن تدفعنا للتوقف من أجل تبصر المستقبل المظلم. إن أشد ما تسعى له دولة الاحتلال من وراء كل عدوان على غزة هو التأكد من أن الانقسام سيصبح أكثر تجذّرًا. كأننا لا نفهم أو لا نريد أن نفهم. إن دفع غزة للملمة جراحها والانشغال بإعادة إعمار ما هدمته الطائرات والدبابات والبوارج هو غاية كل مرحلة ما بعد أي عدوان. انظروا ما الذي يحدث بعد كل عدوان كبير منذ عدوان كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009 حتى عدوان الواحد وخمسين يومًا... يصبح هاجس إعادة الإعمار وهو بالتأكيد حاجة ملحة آخذين بعين الاعتبار ما تشهده غزة بعد كل عدوان من تدمير، الشغل الشاغل. بل إنه يأخذ أبعادًا جديدة تتسق مع غاية العدوان في جعل القضية المركزية هي البحث في مستقبل غزة.

وفيما يكمن الجواب في المصالحة وإعادة غزة إلى حضن الشرعية الوطنية واستعادة الوحدة المفقودة، فإن العالم يبدأ التباكي على غزة المهدمة التي يجب البحث عن حل لها. إنّه الحل الذي لا يكون شاملًا نحو بقية الجزء المتاح من أرض الوطن، بل الحل الذي تصبح بعض القوى الإقليمية - التي لا يمكن التقليل من خطورة دورها - صاحبة اليد الطولى في صوغه من باب أولى لك فأولى. حيث تصبح الأولوية البحث عن ترتيبات لإعادة بناء غزة وفق تفاهمات جديدة قد تشمل علامات سيادة منفصلة. والأخطر من ذلك أنّ كل هذا يتم وفق رؤى إنسانية بحتة. فالأزمة في غزة هي أزمة اقتصادية إنسانية يجب البحث عن حلول لها وفق توصيفها السابق. فالمطار ليس حقًّا للفلسطينيين في غزة؛ لأن حق الشعوب أن يكون لها مطار وتحلق فوق سماء بلادها، ولكن لأن الوضع الإنساني يتطلب أن يتمكن سكان قطاع غزة من الحركة والتنقل. لذا يتم إسقاط الكثير من الحقوق المرافقة لذلك. وعليه قد يتم البحث عن ترتيبات لمطار خارج غزة أو منقوص السيادة. نفس الشيء يمكن أن ينسحب على الميناء. فالميناء ليس حقًّا فلسطينيًّا لأنّ البحر فلسطيني (فلا تصدقوا وقتها درويش: هذا البحر لي) وليس أن من حقهم أن يستخدموا بحرهم كمنفذ للعالم، بل إن وُجِدَ هذا الميناء فهو من أجل أن نحل أزمة الصادرات والواردات من وإلى قطاع غزّة.

تأسيسيًّا، فإنّ كلّ مفاهيم السيادة المرتبطة بهاذين العنصرين تصبح مفقودة وليست من حاجة للتأكيد عليها.. ببساطة لأن الواقع بعد العدوان وما يترتّب عليه يجعل الحاجة الإنسانية أسمى من كل مطلب سياسي. علاوةً على جوهر الأشياء بأن البحر في غزة ليس ملكًا لسكان غزة، بل هو بحر الشعب الفلسطيني أو ما تبقى من بحر الآباء والأجداد، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مكتوبًا.

الكثير من الأشياء ترتبط بالسابق، ولكن المؤكد أن ثمة قصدية عالية في كل ما يجري من قبل دولة الاحتلال، وأن ثمة خططًا يتم الإعداد لها، وفي نفس الوقت هناك ضياع للفرص لا يمكن أن نتيقّن إذا كان مفقودًا. لكن المؤكد أن نتيجة ما يجري تقول: إن هناك قصدية ما في استدامة هذا الواقع. إن أخطر شيء في كل ما يجري هو أن شعبنا لا يحقق أي مكسب سوى هزيمته لدولة الاحتلال ولجيشها من خلال صموده على أرضه وتمسّكه بها، لكن التركيز على البعد الإنساني لمعالجة ما بعد العدوان ليس إلا إعادة إنتاج للمقولات الصهيونية بأن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية لقمة عيش وحياة أحسن من تلك التي يعيشها.

إنَّ البحث الجدي عن أي معالجة سياسية يجب أن يبدأ من إنهاء الوضع القائم في غزة، من خلال استعادة الوحدة الوطنية وحماية مصالح الناس كمدخل لحماية المصلحة الوطنية العليا. فقط عبر ذلك يمكن ليس فقط تجنيب شعبنا ويلات الاحتلال لأنّ هذا بيد الاحتلال، ولكن على الأقل تجنيبه ويلات الانقسام وما يجلبه عليه من مآسٍ. هذا شيء بيدنا والمفتاح صغير ولكنه كبير إلّا على الخاشعين. مرة أخرى ثمّة لحظات لا يكون فيها تصويب البوصلة خيارًا؛ لأنّ الغرق أيضًا لن يكون غيره من خيار وقتها.