قدمت المخرجة هبة بوريني والمخرج محمد جميل، فيلماً حول المفكر الفلسطيني الكوني إدوارد سعيد، حمل عنوان مذكراته، أي "خارج المكان"، وأنتجته فضائية "الجزيرة الوثائقية"، وانتصر للحديث عن سعيد الإنسان، والطالب، والأكاديمي، والمفكر، والتحولات التي طالت فكره ونتاجاته الإبداعية، وجعلت منه صاحب نهج يدرس في أبرز جامعات العالم، بعيداً عن الدخول بشكل فج وشعاراتي في السياسة، وإن لم يخل منها بطبيعة الحال، وبعيداً عن أي صراخ.

وكان الفيلم، الذي عرض في قاعة الجامعة العربية الأميركية بضاحية الريحان، بمشاركة المخرجة هبة بوريني، مميزاً لجهة الإدارة الإخراجية إلى حد كبير، وموفقاً على مستوى التصوير، وإن شابه ضعف بائن في المشاهد التمثيلية، واختيار الشخوص لتجسيد شخصية صاحب "الاستشراق" في أكثر من مرحلة، وهو ما ينطبق على مستوى الماكياج والإكسسوارات المرافقة.

ووُلد إدوارد سعيد لأبوين ثريّين في فلسطين، وتحديدًا في حي الطالبية بالقدس، وذلك في العام 1935، أي فترة الاحتلال أو الانتداب البريطاني، هو الذي كرس حياته، خاصة ما بعد هزيمة 1967، لرفع مستوى الوعي بالقضية الفلسطينية على المسرح العالمي، فأستاذ الأدب في جامعة كولومبيا والمفكر الشهير، كان عالماً وشخصاً عادياً" في آن، هو الذي لقبته الأوساط المؤيدة للصهيونية بـ"بروفيسور الإرهاب"، وهو ما سبب له مشاكل عدة وصلت حد التهديد بتصفيته.

وقالت المخرجة هبة بوريني إن الفيلم يسلط الضوء على "الهوية المنفصلة" التي عاشها إدوارد سعيد، المولود في فلسطين، حيث يحمل اسماً أول بريطانياً، واسم عائلة عربيا، وجواز سفر أميركيا، ورثه عن والده.

وأضافت: ليست كل الشخصيات الفلسطينية مؤثرة ثقافيًا وفكريًا وحضاريًا.. قدمنا اقتراحاً بفيلم سيري عن إدوارد سعيد، أحد المقترحات لشركة إنتاج فكان الفيلم من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية. كان علينا أن نتأكد من أن جميع الشخصيات التي نقترحها لها أهمية أخلاقية وفكرية للمشاهدين، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية، وخاصة الفلسطينية.

وشددت، خلال حديثها ما بعد عرض الفيلم: كنّا حريصين على التركيز على سعيد كونه شخصية فلسطينية، دون السماح للقضية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي طويل الأمد، بإلقاء ظلالها على الفيلم الوثائقي، حيث كان التركيز على الجانب العالمي لعوالمه في جامعة كولومبيا، ومكانته كواحد من أبرز نقاد الأدب في الربع الأخير من القرن العشرين".

وقالت بوريني معلقة على التحدي المتمثل في إخراج الفيلم دون تغيير تركيزه "الصراع الفلسطيني مهيمن بما فيه الكفاية لتولي أي موضوع آخر .. التركيز على ما هو غير سياسي بالدرجة الأولى هو ما يميز هذا الفيلم الوثائقي عن الآخرين"، خاصة أن "سعيد أكبر من أن يصاغ على أنه ينتمي إلى جغرافيا معينة، مع أن هذا لا يتعارض لإلقاء الضوء على جانبه الفلسطيني".

نقاط تحول

وثمة عديد نقاط تحول في حياة إدوارد سعيد، منها تشخيص إصابته بسرطان الدم في العام 1991، وهو ما دفعه إلى البدء في العمل على كتاب خارج المكان، واشتمل على مذكرات، وقصص قادمة من المنفى، والاحتفال بماضيه غير القابل للاسترداد.. في هذه التحفة، يعيد سعيد اكتشاف العالم العربي المفقود في سنواته الأولى في فلسطين، وكذلك في لبنان ومصر.
وأثناء العيش والعمل في مدينة نيويورك الموالية لإسرائيل، شكلت حرب الأيام الستة، أو حرب حزيران العام 1967 نقطة حاسمة في تحول جوهري في مسار حياة إدوارد سعيد، الذي كتب "لم أعد نفس الشخص بعد العام 1967".. "لقد دفعتني صدمة تلك الحرب إلى حيث بدأ كل شيء، الصراع على فلسطين".

في جامعة كولومبيا، بدأ اهتمام سعيد بفلسطين والعالم العربي يظهر في أعماله المنشورة، حيث أنتج أحد أهم الكتب في القرن العشرين، وهو "الاستشراق"، الذي تحدى التصورات الغربية المسبقة عن "الآخر"، حيث وصف هذه التصورات بالغريبة، والمتخلفة، وغير المتحضرة، والخطيرة في بعض الأحيان.. أعطى الكتاب بفعالية ذلك الانضباط الأكاديمي لدراسات ما بعد الاستعمار.

أصبح سعيد أساسياً وملهماً في بعض الأوساط الأكاديمية، وبدأ في محاولة لتغيير الصورة النمطية لفلسطين والفلسطينيين بين الأميركيين، كما تم انتخابه لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني، الهيئة صاحبة القرار في منظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك، وهي التي قدم استقالته منها، إثر توقيع اتفاقية إعلان المبادئ، الشهيرة بـ"اتفاق أوسلو".

كان سعيد موسيقيا وعازف بيانو بارعاً، ولأن صحته تعرضت لانتكاسة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، فقد ابتعد عن السياسة وكرس السنوات الأخيرة من حياته للموسيقى، واعتبرها لغة عالمية.

لقد أراد كسر الحواجز وإيجاد لغة مشتركة بين الإسرائيليين والعرب، ولذا شارك في تأسيس الأوركسترا الشرقية الغربية مع الموسيقار الأرجنتيني الإسرائيلي دانييل بارنبويم.
هذا خيب أمل بعض أقرانه الذين سارعوا إلى الإشارة إلى أن مثل هذه الخطوة تندرج في إطار "التطبيع مع مستعمر".


النشأة
ونشأ سعيد، الابن الذكر الوحيد لوالديه بين أربع إناث، كبروتستانتي في مجتمع أرثوذكسي له الغلبة الديموغرافية في مجتمع مسيحيي القدس .. أدرك في بداية حياته أن لديه هوية منقسمة، فكان اسمه الأول بريطانياً واسم عائلته عربياً وكان يحمل جواز سفر أميركياً، من خلال خدمة والده في الجيش الأميركي إبان الحرب العالمية الأولى.

وتصف جوري فيسواناثان، زميلته في كلية اللغة الإنكليزية بجامعة كولومبيا الأميركية الشهيرة، بأنه كان "ينظر إلى الوجود في غير مكانه كحالة نفسية للأشياء .. كتوصيف جسدي.. لقد رأى خارج المكان أيضاً انعكاساً مؤثراً على وجوده خارج المكان الذي يجري فيه ويسكنه، أي فلسطين.

وجسد الأستاذ بجامعة كولومبيا حميد دباشي جوهر وأثر صديقه وزميله، بالقول: مع وفاة إدوارد سعيد، لم يعد المثقفون المهاجرون مهاجرين .. أصبحنا أصحاب عضوية جديدة كموطّنين.. نحن منجزات معاركه.. كان في غير مكانه في الوقت المناسب وبصراحة شديدة، حتى بعده لم نعد في مكانه، في المنزل حيث يمكننا أن نعلق قبعتنا ونقول لا للسلطة .. سعيد كان رمزاً بل واقعاً عن فلسطين، ومن ثم جعل المأزق الفلسطيني رمزية ميتافيزيقية، وأسسها في المعاناة الجسدية والبطولية لشعبه ... تتطلب العضوية الفكرية الجديدة التي ساعدها سعيد أن تشمّر عن سواعدك وتهبط وسط القاذورات، أحياناً، حتى تتمكن في وسط الفوضى والظلام واليأس من البحث عن الضوء والأمل.

وبالعودة إلى بوريني فإنها ترى أن هناك العديد من الفلسطينيين والعرب لا يعرفون الكثير عن إدوارد سعيد، بل إن بعضهم لا يسمعون به للأسف، وقالت: هذا الفيلم الوثائقي هو دافع رئيس للعرب لتثقيف أنفسهم وقراءته.

واشتهر إدوارد سعيد بكتابه "الاستشراق" وغيره من الكتب بما في ذلك "الثقافة والإمبريالية"، و"خارج المكان"، و"العالم والنص والنقد"، و"تغطية الإسلام"، و"خارج المكان" هو سرد لحياة سعيد قبل مسيرته المهنية، وعمل ثاقب في العديد من مفارقات هويته كمفكر ومنظر أدبي وناشط سياسي، فـ"سعيد ترك وراءه إرثاً هائلاً في الأدب المقارن والدراسات الأدبية، وكان صوت القضية الفلسطينية ما بعد حرب حزيران".

في الفيلم تمت مقابلة نعوم تشومسكي مؤسس اللسانيات الحديثة والناقد الأبرز عالميًا، بالإضافة إلى أساتذة جامعة كولومبيا كحميد دباشي وجوري فيسواناثان، والإعلامي الشهير روبرت فيسك، والكاتب والروائي اللبناني إلياس خوري، وجوزيف مسعد، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية د. حنان عشراوي، إضافة إلى أفراد من أسرته.