جديد كوشنير لا يختلف عن قديم نتنياهو.. صهر الرئيس الأمريكي عديم الخبرة والكاريزما، الذي قفز لأسباب عائلية محضة (على الطريقة العربية) إلى رأس الهرم القيادي الأمريكي، وتولَّى حفنةً من أعقد ملفات السياسة الخارجية (المسألة الفلسطينية، العلاقات الأمريكية السعودية)، يتقدَّم خطوةً إضافيةً في حديثه إلى "سكاي نيوز عربية" عن "صفقة القرن"، مقتربًا من البوح عن مكنوناتها التفصيلية على حد قوله.

دعونا من الحديث المنمَّق عن أركان المبادرة الأربعة: الحرية، الاحترام، الكرامة والأمن، فالحرية عند كوشنير لا تعني التحرُّر من الاحتلال وممارسة حق تقرير المصير والاستقلال الوطني، بقدر ما تعني حرية تنقُّل البضائع والناس والعبادات.. ودعونا من إشاراته المتكرّرة إلى "الفرادة" و"الإبداع" اللّذين ميّزا خطته.. فالخطة في مجملها لم تأتِ بكلمة واحدة من خارج ما دار ويدور في أوساط اليمين الإسرائيلي من أفكار ومبادرات للحل النهائي للمسألة الفلسطينية، وتُشكِّل ارتدادًا عن المواقف الأمريكية التي تبنَّتها إدارات جمهورية وديمقراطية سابقة.

أخطر وأحدث ما صدر عن كوشنير حديثه عن "ترسيم الحدود"، فهو لم يأتِ على ذكر حل الدولتين، ولم يُشِر لحق الفلسطينيين في تقرير المصير وبناء دولة مستقلة، قابلة للحياة وذات سيادة.. الرجل اعتبر أنَّ هدفَ ترسيم الحدود الأبعد، هو إزالتها، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه عرضًا لإقامة كيان فلسطيني، أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، وهو التعبير ذاته الذي طالما استخدمه نتنياهو وقادة يمينيون إسرائيليون في تعريفهم لمعنى حل الدولتين ونظرتهم للدولة الفلسطينية العتيدة.

صرنا أقرب لفهم موقف إدارة ترامب من مشروع الدولة الفلسطينية، فالتوضيحات التي قدَّمها كوشنير مؤخَّرًا، أكَّدت أسوأ مخاوفنا: الولايات المتحدة بصدد الإجهاز على المشروع الوطني بأركانه الثلاثة: عودة اللاجئين، تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة، والقدس كعاصمة لهذه الدولة.

لقد أخرجت واشنطن القدس من "التداول" باعترافها بالمدينة عاصمةً لـ(إسرائيل) ونقل سفارتها من تل أبيب إليها.. واستهدفت ملف اللاجئين عبر مسارين متوازيين اثنين: تفكيك "الأونروا"، وإعادة تعريف اللاجئ، وأعطت ضوءًا أخضر للزحف الاستيطاني المنفلِت من كلِّ عقال في القدس والضفة الغربية، وتبنَّت "نظرية السلام الاقتصادي" التي أطلقها نتنياهو في تسعينات القرن الفائت، وتبنّاها طوني بلير والجنرال دايتون لاحقًا، وباتت جوهر ما وصفه توماس فريدمان بـ"الفيّاضية" في إشارة إلى رئيس الحكومة الفلسطينية الأسبق سلام فيّاض.

اليوم، يأتي كوشنير بنظرية "ترسيم الحدود"، من دون ربطها بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، لكأنَّ الرجل يسعى في ترسيم حدود "الحكم الذاتي المحلي" التي ستزول قريبًا، فهي عنده، ليست "حدودًا دولية"، ولا يتعيَّن النظر إليها كذلك.

كوشنير يطوف بعواصم المنطقة الثرية، وقد ألحقَ تركيا ببرنامج جولته الحالية.. الرجل يبحثُ عن تمويل لخطة يتمنَّع عن كشف مضامينها، لكأنّه يطلب ثمنَ بضاعة من دون أن يُكلِّف نفسه عناء شرح ماهيتها ومواصفاتها، وفي ذلك استخفاف ما بعده استخفاف بمَن التقاهم ويلتقيهم من قادة المنطقة.. والرجل يعرض على دول عربية وإسلامية، تمويل ودعم "صفقة" تضمن بقاء القدس والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية تحت السيادة الإسرائيلية، مُطمئِنًّا إلى أنَّ "شبح التهديد الإيراني" سيجعله قادرًا على تمرير أخطر صفقة يجري عرضها على الفلسطينيين والعرب، ولم يجرؤ أحدٌ قبله على فعلها.

لكنَّ "الأخبار الجيّدة" وسط هذا الركام من "الأنباء السيئة" إنّ أحدًا ممَّن التقاهم كوشنير أو سيلتقيهم، في جولته الحالية أو غيرها من الجولات، لن يجرؤ على الوقوف أمام الكاميرا لإبداء الدعم لخطّة مفخّخة بكلِّ هذه التنازلات السياسية و"العقائدية"، كما أنَّ الموفد الشاب، لن يجد فلسطينيًّا واحدًا، يمكن أن يقبل بعرضه أو يتساوق معه، أو يخفض له جناح الفهم والتفهُّم.